لطيفة من لطائف الأسماء الحسنى
وهاهنا لنا لطيفة من لطائف الأسماء الحسنى، نذكرها بحول الله؛ رفعاً للغبش الذي قد يدور بخلد بعضهم، أو مما قد يلقيه الشيطان في خاطر العبد الذي لم يذق بعد جمال بعض الأسماء من مثل أسمائه تعالى: (الجبار، والمتكبر، والقهار، والمنتقم)، إن أول شيء يجب التذكير به أن هذه الأسماء – كسائر أسمائه تعالى- قد وصفها الله عز وجل في القرآن بأنها (الحسنى)، على التفضيل، وفي هذا لطائف كثيرة فالبنسبة إلى خصوص معاني التكبر والكبرياء والقهر والجبروت من أسمائه تعالى، فهي مما يشين الإنسان، ويلقي به في دركات الذم والنقص؛ لو اتصف بها، وتخلق بأحوالها، لكنها في ذات الله تعالى جلال وجمال، ونور وكمال، فهي (الحسنى)، نعم قد ورد الوعيد في حق من اتصف بها من الناس، كما في الحديث القدسي: "قال الله تعالى: الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني واحداً منهما قذفته في النار".
وبيانه أن الله عز وجل قصر ذلك الوصف عليه تعالى، ولم يأذن لأحد من خلقه في اكتسابه، وهو عز وجل يليق به ذلك؛ لجلال قدره، وعظمة ملكه وسلطانه، فهو الملك الحق العدل، لا ينافي شيء من ذلك عدله ورحمته، بل إن وصف القهر والجبر والكبرياء في ذاته مصدررحمة لعبادهالمؤمنين – وهذا من لطائف المسألة – حيث إن المؤمن حينما ينتسب إلى الله عبداً، فإنه يكتسب من نسبة العبودية عزة ومنعة؛ إذ هو محمي من الظلمة والفجار؛ باسم الله الجبار القهار.
وأنت حينما ترى في الأرض عبداً جاهلاً متكبراً، تدرك بسرعة أنه ينتحل ما ليس له، كيف يصدق تجبره وكبرياؤه؟
وقد قال الله فيه: {وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاَ}
[النساء: 28]
، فكبرياؤه ذاك إنما هو صورة من ورق! إنه مرض نفسي، فهو تعبير عن الشعور بالنقص إزاء كمال حاوله فلم يصله، من الناحية الاجتماعية، أو المالية، أو السلطانية، أو أي جهة أخرى، فقد يكون الإنسان غنيّاً ذا ثروة طائلة، فإذا تكبر دل ذلك على نقص من جهة أخرى، ربما ظن أن ماله يغنيه من كل وجه، فلما أدرك أنه لا يسد له حقيقة الكمال؛ استكبر فطغى وتجبر وظلم! إنك أيها العبد المنتسب – بخضوعك وعبوديتك – إلى كبرياء الله الحق، تشعر أن الكبرياء الذي ينتحله الخلق كذب وافتراء، بل مرض يستحق صاحبه الحسرة والإشفاق! تماماً كما تشفق على من ألقى بيده إلى التهلكة بالكفر والضلال، على غرار
قوله تعالى: {يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ}
[يس: 30]
فأما الجاهل فقد يرى الجبار من الناس أسداً يزأر في وجوه الخلق، وأما عبد الله فإنما يراه أسداً من ورق، أو دمية (كرتونية) تحكي لعبة أسد، والمتكبر من الخلق هو أول من يشعر – في نفسه – بضعفه، وعجزه، وفشله في أن يندمج في المجتمع، ويتواضع أمام الخلق، وما أصدق قول الشاعر في هذا:
ملأى السنابل تنحنى بتواضع
والفارغات رؤؤسهن شوامخ
وأنت إذ ترى ما لا يرى الجهلة تستريح.. فقد عرفت أنما الكبرياء والجبروت لله الواحد القهار؛ فكانت بذلك أسماؤه الحسنى: الجبار والمتكبر والقهار، ونحوها من أسماء الجلال، برداً وسلاماً على قلوب عباده الصالحين، تبعث النور والجمال.. ولا عجب، فهي من (الأسماء الحسنى) حقّاً وصدقاً.
{قُل صَدَقَ اللهُ}
[آل عمران: 95]
والله خير الصادقين.
وإنك حينما تذوق من معرفة الله لمعات وأنواراً؛ يتعلق قلبك بحبه؛ لأنك إنما تجد الجمال الحق في تلك المعرفة. وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "إن الله تعالى جميل يحب الجمال"، فمن ذاق؛ عرف، ومن عرف اشتاق. وليس عبثاَ أن يكون ضمن السبعة الذين يظلهم الله يوم القيامة، يوم لا ظل إلا ظله تعالى: (رجل قلبه معلق في المساجد). ولا يتعلق القلب إلا إذا أحب، ولا يحب إلا من شهد الجمال. وإنما ترى جمال الله جل جلاله في شعورك القوي بجمال خالقيته تعالى، وكمال قيوميته، وحسن إجابته، وكرم رعايته، وقرب رحمته وأنسه، فاقرأ الجمال في كلمات الله إذ يقول:
{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِي فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}
[البقرة 186].
إن العبد الذي أيقن بمعرفة الله، يفيض قلبه بالمحبة، محبة كل شيء، إذ يجد أخوه إيمانية في وجدانه مع كل شيء من الكائنات – عدا شياطين الجن والإنس – فالكل مستغرق في عبادة الله، سائر إليه عبر مسالك المحبة:
{تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً}
[الإسراء: 44]،
ولقذ جعل الله لنبيه داود معجزة كَشْف لبعض ذلك، فكانت الجبال والطير تسبح بتسبيحه وتدعو بدعائه، في مجالس تفيض بالنور والجمال، تلتقي على موعد بالغدو والآصال،
كما في قوله تعالى: {إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ}
[ص: 18 - 19].
إن الكون كله في وجدان المسلم مثل طيور داود عليه السلام، مجالس أنس وذكر، تشعره بالأخوة الكبرى، في السير إلى الله عبر أفلاك العبودية:
{كُلٌ فِي فَلَكٍ يَسبَحُونَ}
[الأنبياء: 33]
، وأنت أيضاً يا صاح تسبح عبر الفلك العمر سيراً إلى الله ذي الجلال والجمال، تتعرف إليه من خلال هذا كله، إذ تجده سبحانه تجاهك، كلما ذكرت أو دعوات، منتسباً إليه تعالى بعبوديتك، وذلك أعظم معنى لوجودك في الحياة.. فتأمل! وتلك غاية الغايات من الخلق كما ذكرنا
{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ}
[الذاريات: 56].
والمعرفة طريق لا تنفد تجلياتها، ولا تنتهي إشراقاتها إلا بلقاء الله، حيث ينكشف سر السير إلى الله
{وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ}
[الحجر: 99]،
وترى هنالك بعين اليقين حقيقة الوجود الدنيوي، من خلال وجودك الأخروي:
{وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ}
[ق: 19-22].
إن المعرفة بالله تملأ قلبك أنساً بالله، ثم أنساً بالحياة، وأنساً بالكون والكائنات، وأنساً بالموت، الذي لن ترى فيه – إذ تقف عليه – إلا موعداً جميلاً، للقاء جميل، مع رب جميل. فذلك ذوق الإحسان في قمة المشاهدات الإيمانية. وإنما (الإحسان: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك). ألا يا حسرة على الناس إذ جهلوا بالله!
حتى إذا وجدت ما وجدت، وعرفت من ربك ما عرفت أبت عليك معرفتك، وما فاضت به عليك من جمال الأخوة الكونية؛ إلا أن تسعى بهذا الخير إلى الناس كل الناس.. داعياً إلى الله ومعرفاً به، لا يمكم لعارف بالله حقّاً إلا أن يكون داعية إليه، وهل يستطيع المحب أن يكتم من محبته شيئاً؟ إن الوجدان ليضيق عن كتمان جمال، تشرق أنواره على الكون كله! ولا يمكن للنور إلا أن ينير!