فاتحةُ خَـيْرٍ
وبعد،
فهذا مشروع القرآن الكريم بين يديك الآن.. وهذا طريقُه السيَّارٌ منفتحٌ على معراج الروح.. وحاجة النفس إلى بصائره مستصرخة مستغيثة! خاصة في هذا الزمان! إلا أن القرآن لا يفتح أبواب أسراره إلا لمن أقبل عليه بشروطه. وإنما شروطه أمران: إخلاص القصد لله تعالى، ثم أخذ الكتاب بقوة!
فأما بيان الشرط الأول: فبإخلاص القصد عند بدء السير إلى منازل القرآن، وبتحقيق الصدق في طلب مجالسه؛ يفتح الله لك أبواب الخير، ويمهد لك الطريق إلى الجنة، ويوكل بك ملائكة الرضى! وتأمل حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم :
(مَنْ سَلَكَ طريقاً يَلْتَمِسُ فيه عِلْماً سَهَّلَ الله له به طريقاً إلى الجنَّة! وما اجتمع قومٌ في بيتٍ من بيوت الله يتلون كتابَ الله، ويَتَدارَسُونَهُ بينهم إلا نَزَلَتْ عليهم السَّكينَةُ، وغَشِيَتْهُم الرَّحْمَةُ، وحَفَّتْهُم الملائِكَةُ، وذَكَرَهُم الله فيمَنْ عِنْدَهُ! ومَنْ أبْطَـأ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ يُسْرِعْ بهِ نَسَبُه!)
رواه مسلم.
. وقوله عليه الصلاة والسلام في حديث آخر:
(مَنْ سَلكَ طريقاً يطلب فيه عِلْماً سَلَكَ الله بهِ طريقاً مِنْ طُرُقِ الجنَّة! وإنَّ الملائكةَ لَتَضَعُ أجنحَتَها لطالِبِ العِلْمِ رِضاً بما يَصْنَعُ! وإنَّ فَضْلَ العَالِمِ على العَابِدِ كفَضْلِ القَمَرِ ليلةَ البَدْرِ علَى سائرِ الكَوَاكِبِ! وإنَّ العَالِمَ ليَسْتَغْفِرُ لهُ مًنْ في السَّماواتِ وَمَنْ في الأرْضِ! حتَّى الْحِيتَانُ في جَوْفِ الماء! إنَّ العُلَمَاءَ وَرَثَةُ الأنْبِيَاء! وإنَّ الأنبياءَ لم يُوَرِّثُوا دينَاراً ولا دِرْهَماً، وإنما وَرَّثُوا الْعِلْمَ! فمَنْ أخذَهُ فقَدْ أخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ!).
رواه أحمد، وأصحاب السنن، وابن حبان، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير، وفي تعليقاته على سننهم.
وهل فوق تعلم القرآن - تدارسا وتدبرا - عِلْمٌ أرقى؟ كلا قطعاً! وهذه شهادةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم حاكمةٌ على مراتب الناس من سائر العلوم إلى يوم القيامة!
قال عليه الصلاة والسلام:
(خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ القُرْآنَ وعَلَّمَهُ!)
وله صيغة أخرى:
(إنَّ أفْضَلَكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ القُرْآنَ وعَلَّمَهُ!)
رواه البخاري بالصيغتين معاً، عن عثمان رضي الله عنه مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
هكذا على العموم والإطلاق! فلا مجلس أفضل بعد ذلك؛ من (مجالس القرآن) التي نُصِبَتْ بإخلاص لهذه الغاية الرفيعة!
وأما بيان الشرط الثاني: فإن القرآن لا يستقيم سَيْرُ العَبْدِ بين مَسَالِكِهِ إلا إذا أخذه بقوة! ذلك منهج الأنبياء والصِّدِّيقِين. قال الله جل جلاله لرسوله موسى عليه السلام:
(وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأوْرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ)
(الأعراف:145)
وقال لنبيه يحيى عليه السلام: (يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ!)
(مريم:12)
وقال لخاتم الأنبياء سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم:
(إنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً)
(المزمل:5)
. ثم قال له:
(وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا. وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا!)
(الكهف:27-28).
فـ(الأخذ بقوة) هو: الأخذ بعزم وبحزم، والصبر على حمل الأمانة وثقل الرسالة! والصبر على طول الطريق! والثبات على الحق! فالشيطان لك بالمرصاد، يثبطك، ويبطئك عن المضي في طريق الله؛ فالصَّبْرَ الصَّبْرَ على دوام ذكر الله في صحبة الصالحين، ومَعِيَّةِ الربانيين، بمنهج القرآن، وبرنامج القرآن. وإنما الموفق من وفقه الله!
فالقرآن العظيم هو عهد الله إلى الناس أجمعين، فهل عقدت عليه عزمَك، وأبرمتَ عليه ميثاقَك؛ أم أنك ما تزال من المترددين؟ نعم لك أن تنظر ماذا ترى؛ ولكن اعلم أن العمر لا ينتظرك، ولا هو ينتظر أحداً من العالمين! وأن الأرض تجري في دورتها الفلكية لتلقي بك عن كاهلها قريباً، هناك لدى وصولك محطتك الأخيرة! فالبِدَارَ البِدَارَ قبل فوات الأوان!
فلنختم هذا المدخل بما بدأناه به:
قول الله جل ثناؤه: (أَلَمْ يَانِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ ؟ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الاَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ)؟!
(الحديد:16)
فاللهم إني عَبْدُكَ! وابْنُ عبدِك وابنُ أمَتِكَ، ناصيتي بيدك، ماضٍ فِيَّ حكمُك، عَدْلٌ فِيَّ قضاؤك. أسألك بكل اسْمٍ هو لك، سمَّيتَ به نَفْسَك، أو عَلَّمْتَهُ أحداً من خَلْقِك، أو أنزلته في كتابك، أو استأثرتَ بِه في علم الغيب عندك، أن تجعلَ القرآنَ رَبِيعَ قلبي، ونورَ صدري، وجلاءَ حزني، وذهابَ همي!
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما.