ثالثًا: منزلة الإخلاص من الدين وأهميته : وهذا يتبين من وجوه مختلفة
أولًا: أن الإخلاص هو روح العمل: فعمل لا إخلاص فيه كجسد لا روح فيه، فهو بمنزلة الروح من الجسد، يقول ابن القيم رحمه الله:'ومِلاَك ذلك كله: الإخلاص والصدق، فلا يتعب الصادق المخلص، فقد أُقيم على الصراط المستقيم فيُسَار به وهو راقد، ولا يتعب من حُرم الصدق والإخلاص فقد قُطعت عليه الطريق واستهوته الشياطين في الأرض حيران، فإن شاء فليعمل، وإن شاء فليترك، فلا يزيده عمله من الله إلا بُعداً، وبالجملة: فما كان لله وبالله فهو من جند النفس المطمئنة' [الروح ص227] .
وما أجمل وما أحلى عبارة ابن الجوزي رحمه الله، حيث قال في كتاب له لطيف اسمه:'اللطف في الوعظ':' الإخلاص مِسْك مَصُون في مَسكِ القلب – أي: أنه محفوظ في هذا الوعاء الذي هو القلب – ينُبئ ريحه على
حامله، العمل صورة والإخلاص روح، إذا لم تخلص فلا تتعب، لو قطعت سائر المنازل – في الحج – لم تكن حاجاً إلا ببلوغ الموقف' .
وهو بهذا يريد أن يقول: إن منزلة الإخلاص من الأعمال كمنزلة الوقوف بعرفة من أعمال الحج، ولو أن الإنسان ذهب إلى منى، ومزدلفة، وطاف بالبيت الحرام، وما إلى ذلك من الأعمال التي يعملها الحجاج، ولم يقف بعرفة، هل يكون ذلك الإنسان حاجاً؟ الجواب: لا، يقول : لو قَطَعتَ سائر المنازل لم تكن حاجاً إلا ببلوغ الموقف . وصدق رحمه الله، وتأمل قوله قبله:'الإخلاص مِسْك مَصُون في مَسك القلب يُنبيء ريحهُ على حامله' فالإخلاص لا يحتاج منك إلى إظهار، ولا يحتاج منك إلى إعلام للناس أنك مخلص، وإنما يظهر ذلك في حركات الإنسان، وسكناته، وتظهر آثاره على العبد . وأما الذي يتصنع للناس، ويسعى لإعلامهم بعمله، وصلاح قلبه، وما إلى ذلك، فالواقع أنه يُحطم الإخلاص في قلبه، ولا يزيده ذلك إلا شَيناً في قلوب الخلق، والله المستعان.
فبهذا نعلم: أن الإخلاص هو عمود العمل، وهو سنامه؛ لأن العامل بدون إخلاص كادح متعب نفسه، لا أجر له، فالله عز وجل يقول:
" وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا[23] "
[سورة الفرقان]
. والنبي صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث المشهور:
[ إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ...]
رواه البخاري ومسلم.
والله يقول جل جلاله:
"...لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا...[7] "
[سورة هود]
. ولم يقل: ليبلوكم أيكم أكثر عملًا، فليست العبرة بالكثرة إنما العبرة بالصواب مع حسن القصد:
· قال الفضيل بن عياض رحمه الله - تعليقاً على هذه الآية في بيان معنى:
"أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا "
قال:' أخلصه وأصوبه' قالوا: يا أبا علي ما أخلصه وأصوبه ؟ قال:' إن العمل إذا كان خالصاً ولم يكن صواباً لم يقبل، وإذا كان صواباً ولم يكن خالصًا لم يقبل حتى يكون خالصاً صواباً، والخالص: أن يكون لله، والصواب: أن يكون على السنة، ثم قرأ:
" فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا[110] "
[سورة الكهف] '.
· ويقول ابن القيم رحمه الله:' العمل بغير إخلاص ولا إقتداء كالمسافر يملأ جرابه رملاً ينقله ولا ينفعه' . فهو ليس له من هذا الجراب وهذا الحمل إلا التعب، فمن حمل التراب على ظهره، فإن ذلك لا ينفعه؛ لأنه لا نفع فيه.
· ويقول ابن حزم- مبيناً هذا المعنى- :'النية: سر العبودية، وهى من الأعمال بمنزلة الروح من الجسد، ومحال أن يكون في العبودية عمل لا روح فيه؛ إذ هو بمنزلة الجسد الذي لا روح فيه، وهو جسد خراب'.
· وهذا الأحنف بن قيس رحمه الله تعالى يقول في حكمة بليغة:' رأس الأدب آلة المنطق، لا خير في قول بلا فعل، ولا في منظر بلا مخبر، ولا في مال بلا جود، ولا في صديق بلا وفاء، ولا في فقه بلا ورع، ولا في صدقة بلا نية'. وإن شئت فقل: ولا عمل بلا نية .
ثانيًا: أنه لا سبيل إلى الخلاص والانفكاك من التبعات إلا بالإخلاص: فالإنسان يحاسَب على أعماله، ويحاسَب على نياته وإراداته، وإذا نُصبت الموازين، ووضعت الصحف؛ أبصر العبد بعد ذلك عمله، وعرف حاله ومنزلته عند الله عز وجل، يقول شمس الدين ابن القيم رحمه الله:' ما من فعلة وإن صغرت إلا ينشر لها ديوانان: لِمَ وكَيْفَ ؟؟ أي: لم فعلت، وكيف فعلت ؟
فالأول: سؤال عن علة الفعل، وباعثه وداعيه: هل هو حظ عاجل من حظوظ العامل، وغرض من أغراض الدنيا من حب المدح من الناس، أو خوف ذمهم، أو استجلاب محبوب عاجل، أو دفع مكروه عاجل ؟! أم الباعث على الفعل القيام بحق العبودية، وطلب التودد والتقرب إلى الرب سبحانه وتعالى، وابتغاء الوسيلة إليه ؟! ومحل هذا السؤال أنه: هل كان عليك أن تفعل هذا الفعل لمولاك، أم فعلته لحظك وهواك ؟
والثاني:سؤال عن متابعة الرسول عليه الصلاة والسلام في ذلك التعبد: أي هل كان ذلك العمل مما شرعته لك على لسان رسولي، أم كان عملاً لم أشرعه ولم أرضه؟
فالأول: سؤال عن الإخلاص، والثاني: عن المتابعة، فإن الله سبحانه لا يقبل عملاً إلا بهما، وطريق التخلص من السؤال الأول: بتجريد الإخلاص، وطريق التخلص من السؤال الثاني: بتحقيق المتابعة وسلامة القلب من إرادة
تعارض الإخلاص، وهوى يعارض الاتباع، فهذه حقيقة سلامة القلب التي ضمنت له النجاة والسعادة'[إغاثة اللهفان 1/8].
ولهذا كان معروف الكرخي رحمه الله يحث نفسه دائما، ويردد عليها:' يا نفس أخلصي تتخلصي.. يا نفس أخلصي تتخلصي' .
ثالثًا: من الأمور الدالة على أهمية الإخلاص، وعظيم منزلته: أنه حقيقة الإسلام الذي بعث الله عز وجل به المرسلين عليهم الصلاة والسلام: كما ذكر الشيخ تقي ابن تيمية رحمه الله، فقال:' إذ الإسلام هو الاستسلام لله لا غيره كما قال الله تعالى:
" ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا...[29] "
[سورة الزمر]
. يقول: فمن لم يستسلم لله؛ فقد استكبر، ومن استسلم لله ولغيره؛ فقد أشرك، وكل من الكبر والشرك ضد الإسلام والإسلام ضد الشرك والكبر' [مجموع الفتاوى 10/14].
رابعًا: مما يدل على أهميته أنه الفطرة التي فطر الله الناس عليها وبه قوام الأمة[انظر:درء التعارض8/374 ]: فالله ما فطر الناس على الرياء، وعلى المقاصد السيئة، وعلى الشرك بالله عز وجل، إنما فطرهم على التوحيد، ولا شك أن الإخلاص هو التوحيد، مر عمر بن الخطاب رضي الله عنه على معاذ بن جبل فسأله:' ما قوام هذه الأمة؟' فقل معاذ:' ثلاث وهن المنجيات: الإخلاص: وهو الفطرة
" فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا...[30] "
[سورة الروم]
. والصلاة: وهى الملة. والطاعة: وهي العصمة' فقال عمر رضى الله عنه:' صدقت' .
ومن هنا نعلم شأن الإرادات والمقاصد والنيات، وخطرها، وعظيم أثرها وشأنها، ولهذا قال يحيى أن أبي كثير رحمه الله تعالى:' تعلموا النية؛ فإنها أبلغ من العمل' . وذلك لأنها تبلغ بصاحبها ما لا يبلغه عمله- كما سيأتي إن شاء الله-ويقول ابن أبي جمرة- وهو أحد شراح الصحيح- :' وددت أنه لو كان من الفقهاء من ليس له شغل إلا أن يعلم الناس مقاصدهم في أعمالهم، ويقعد في تدريس أعمال النيات ليس إلا؛ فإنه ما أتي على كثير من الناس إلا من تضييع ذلك'.