كثيرون هم أولئك الناس الذين يتلون القرآن اليوم، أو يستمعون له على الإجمال، على أشكال وأغراض مختلفة. ولكن قليل منهم من (يتلقى) القرآن !
وإنما يؤتي القرآن ثمار الذكر حقيقة لمن تلقاه ، وإنما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلقي القرآن من ربه.
{وإنك لتلقي القرآن من لدن حكيم عليم}
ولا يزال القرآن معروضاً لمن يتلقاه وليس لمن يتلوه فقط! وما أدق وأجمل كلمات الشاعر الباكستاني محمد إقبال في هذا ! إذ قال رحمه الله: تجلي النور فوق الطور باق
فهل بقي الكليم بطور سينا؟
والتلقي في اللغة: هواستقبال عموماً كما في
{لا يحزنهم الفزع الأكبر وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون}
وأما تلقي القرآن: فهو استقبال القلب للوحي إما على سبيل النبوءة، كما هو الشأن بالنسبة للرسول صلى الله عليه وسلم.
على نحو ما في قول الله تعالى:
{وإنك لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم}.
إذ ألقى الله القرآن بهذا المعنى كما فسره الراغب الصفهاني {إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً}
قال رحمه الله: (إشارة إلى ما حمل من النبوة والوحي!).
وإما أن يكون (تلقي القرآن) بمعنى استقبال القلب للوحي، على سبيل الذكر.
وهو عام في كل مؤمن أخذ القرآن بمنهج التلقي على ما سنبينه بعد بحولالله فذلك المنهج هو الذي به تنبعث حياة القلوب. لأنها تتلقى آنئذ القرآن (روحاً) من لدن الرحمن. {وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا. ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا. وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم}
وبيان ذلك أن المسلم يتعامل مع القرآن تلاوة واستماعا على أنه (تنزيل)، وليس فقط على أنه (إنزال) فقط فرق علماء القرآن بين (التنزيل) و(الإنزال)؛ على اعتبار أن الإنزال: هو ما وقع من نزول القرآن من لدن الله تعالى، إلى السماء الدنيا. وهو ما حصل في ليلة القدر.
{إنا أنزلناه في ليلة القدر}
{إنا أنزلناه في ليلة مباركة}
وأما التنزيل: فهو ما وقع من نزول القرآن في الناس، على وقائع معينة في التاريخ. تعالج قضايا النفس والمجتمع. وهو ما قصده العلماء بمعنى نزول القرآن (منجماً): أي مفرقاً على آيات تنزل عند الحاجة لتعالج هذه الآفة أو تلك، أو لتؤسس هذا الحكم أو ذاك في عملية بناء الإنسان، وعمران الوجدان، التي استمرت طيلة فترة تنزل الوحي في المجتمع الإسلامي النبوي. وذلك هو المذكور مثلاً في قول الله تعالى: {حم تنزيل من الرحمن الرحيم. كتاب فصلت آياته قرآناً عربياً لقومٍ يعلمون}
فالتنزيل: تفريق القرآن آيات آيات ـ لما ذكرنا ـ عند تنزله على قضايا الناس. وقد ذكر الله سبحانه المعنيين معاً بشكل واضح، في سورة الإسراء،
{وبالحق أنزلناه وبالحق نزل وما أرسلناك إلا مبشراً ونذيراً. وقرآناً فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلاً}
ومن هنا قال الراغب الأصفهاني: (الفرق بين "الإنزال" و "التنزيل" في وصف القرآن والملائكة: أن التنزيل يختص بالموضع الذي يشير إليه إنزاله مفرقا، ومرة بعد أخرى. والإنزال: عام (...)
{شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن}
، إنما خص لفظ (الإنزال) دون (التنزيل)؛ لما روي: ( أن القرآن نزل دفعة واحدة إلى سماء الدنيا، ثم نزل نجما فنجماً). أخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله تعالى : "إنا أنزلناه في ليلة مباركة" ، قال: أنزل القرآن في ليلة القدر، ثم نزل به جبريل على رسول الله نجوماً، بجواب كلام الناس).
و(تلقي القرآن) بمعنى استقبال القلب للوحي على سبيل الذكر، إنما يكون يأخذه ـ فضلاً عن كونه إنزالاً ـ على أنه تنزيل. حيث يتعامل معه العبد، ويتدبره آية، آية باعتبار أنها تنزلت عليه لتخاطبه هو في نفسه ووجدانه فتبعث قلبه حياً في عصره وزمانه! ومن هنا وصف الله تعالى العبد الذي (يتلقى القرآن) بهذا المعنى؛ بأنه (يلقي) له السمع بشهود القلب! {إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد}
. وذلك هو الذاكر حقاً الذي يحصل الذكرى ولا يكون من الغالفين.
أن تتلقى القرآن: معناه إذن؛ أن تصغى إلى الله يخاطبك! فتبصر حقائق الآيات وهي تتنزل على قلبك روحاً وبهذا تقع اليقظة والتذكر، ثم يقع التخلق بالقرآن؛ على نحو ما هو مذكور في وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، لما سئلت عن خلقه صلى الله عليه وسلم فقالت: كان خلقه القرآن!
وأن تتلقى القرآن: معناه أيضاً أن تتنزل الآيات على موطن الحاجة من قلبك ووجدانك! كما يتنزل الدواء على موطن الداء! فآدم عليه السلام لما آكل هو وزوجه من الشجرة المحرمة؛ ظهرت عليهما أمارة الغواية، بسقوط لباس الجنة عن جسديهما! فظل آدم عليه السلام كئيباً حزيناً.
(فاكلا منها فبدت لهما سوآتهما! وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة. وعصى آدم ربه فغوى)
. ولم يزل كذلك حتى (تلقى) كلمات التوبة من ربه فتاب عليه؛ فكانت له بذلك شفاءً!
{فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم}
فهو عليه السلام كان في حاجة شديدة إلى شيء يفعله أو يقوله، ليتوب إلى الله، لكنه لا يدري كيف؟ فأنزل الله عليه ـ برحمته تعالى ـ كلمات التوبة؛ ليتوب بها هو وزوجه إلى الله تعالى. وهي ـ كما يقول المفسرون ـ {قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين}
فبمجرد ما أن تنزلت الآيات على موطن الحاجة من قلبه؛ حتى نطقت بها الجوارح والأشواق؛ فكانت له التوبة خلقاً إلى يوم القيامة ! وكان آدم عليه السلام بهذا أول التوابين! وذلك أخذه كلمات التوبة على سبيل (التلقي): (فتلقى آدم من ربه كلمات)!
فعندما تقرأ القرآن إذن، استمع وأنصت فإن الله جل جلاله يخاطبك أنت! وادخل بوجدانك مشاهد القرآن فإنك في ضيافة الرحمن! هناك حيث ترى من المشاهد ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر!