هدي القرآن في تزكية النفس
تعَدُّ محاولة فهم النفس البشرية وكنهها من أكثر ما شغل الإنسان منذ القِدم، هذه النفس العجيبة التي بين جنبينا بما فيها من رغبات وإرادات وبواعث ومحرّكات ومثبّطات، تؤثّر تأثيرًا مباشرًا على أفعال الإنسان وتدفعه دفعًا لأفعال متباينة تجلب على النفس السعادة أو الشقاء
هذه النفس التي لديها قدرة لأن تصل إلى أعلى الدرجات بتزكيتها؛ أو تهوي لأسفل الدركات بتدسيتها، فهي مخلوقة مهيأة تمام التهيؤ ومستعدة تمام الاستعداد لقبول الخير أو الشرّ بحسب اختيار العبد؛ وأنّ الله تعالى الذي قدّر لها الابتلاء؛ خيّرها بناءً على هذا،
قال تعالى:
{إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا}
[الإنسان: 3]
وقال تعالى:
{وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ}
[البلد: 10].
هذه الآيات وغيرها في القرآن تؤكّد أن الله -عز وجل-بيّن للنفس كِلا الطريقين، وأعطاها حرية الاختيار، وهذا هو محلّ الابتلاء.
وقد وضع القرآن طرقا للتعامل مع تلك النفس ليستطيع الإنسان أن يتزكي، ومن تلك الطرق: -
الإكثار من الطاعات والإقلال من المعاصي
فما من مخلوق إلا وهو عبدٌ لله بالمعنى العام للعبودية،
قال تعالى:
{إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا}
[مريم: 93]
، فهذه العبودية تشمل جميع الخلق، المؤمن والكافر والبَرّ والفاجر، فهي عبودية الربوبية والخضوع، فإذا خضع العبد لربه بتلك العبودية
وستشعرها فإنه سينقاد تلقائيا لعبودية الإلهية بأن يصرف العبد عبادته التامّة لله وحده لا شريك له؛ فهذه لا تكون إلا اختيارًا من العبد، وهذه هي العبودية الخاصّة، والتي لا تكون إلا لتزكية النفس، وهذا هو محلّ الابتلاء في الحياة الدنيا.
فمما يُعِين على تزكية النفس أن يستدلّ الإنسان بعبودية الربوبية على عبودية الألوهية.
لفظ (التزكية) نفسه يعبّر عن وصف ومنهج، فالتزكية يدور معناها على "النماء والتطهير" أو "التخلية والتحلية"، فمن أراد تزكية نفسه حقًّا، فعليه أن يجمع بين الأمرين معًا، تنمية النفس بطاعة الله، وفي نفس الوقت تطهيرها من المعاصي، بل إنّ التخلية تسبق التحلية؛ فالذي يريد أن يبني بناءً عاليًا على أرضٍ ما، لا بد أن يطهر هذه الأرض أولًا، ثم بعد ذلك يكون البناء على أرض صلبة راسخة، وهكذا تُبنى النفوس الزكية.
قال شيخ الإسلام: «وأصل الزكاة الزيادة في الخير، ومنه يقال: زكا الزرع وزكا المال؛ إذا نما. ولن ينمو الخير إلا بترك الشّر، كالزرع الذي لا يزكو حتى يُزال عنه الدغل، فكذلك النفس والأعمال لا تزكو حتى يُزال عنها ما يناقضها، ولا يكون الرجل متزكّيًا قد زُكّي إلا مع ترك الشّر؛ ومَن لم يترك الشّر لا يكون زاكيًا البتة، فإنّ الشر يدنّس النفس ويدسّيها» [مجموع الفتاوى 10/ 629]
فالمفلح مَن زكّى نفسه بطاعة الله، وقد خاب وخسر مَن دسّى نفسه بمعصية الله عز وجل،
قال تعالى
{قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها}
[الشمس 9-10]
أي: قد أفلح مَن زكّى اللهُ نفسَه، وقد خاب مَن دسّى اللهُ نفسَه، فَمَن زكّى نفسه وحمَلها على طاعة خالقها، وفّقَه اللهُ ويسّر له وزكّاه؛ إِذْ لا تزكو النفس إلا بتوفيق الله -عز وجل-، وكذا يمكن أن نقول في مَن اختار تدسية نفسه؛ فإنّ الله يدسّيه، والجزاء من جنس العمل، والمؤمن يعلم أنه لا يمكنه أن يستقلّ بتزكية نفسه دون العون من ربه -سبحانه وتعالى-، فإيّاه نعبد وإياه نستعين، والقلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلّبها كيف شاء.