النفاق
إننا نعيش اليوم زماناً انقلبت فيه الموازين، وانعكست فيه المعاييرُ، زمن يسمى فيه العالم جاهلاً، والجاهل عالماً، والبليد الغشاش المزور شاطراً ذكياً، والمخلص المجدّ بليداً، والشريف وضيعاً، والوضيعُ شريفاً، والخائنُ أميناً، والأمينُ خائناً، والفاسد المفسد صالحاً مصلحاً، والصالح المصلح فاسداً مفسداً، والفاسق الفاجر الإباحي متحرراً، والمتحرر المتعفف الحيي مكبوتاً... واللئيم كريماً، والكريمُ لئيماً، والجبان الراضي بالذِّلَّةِ والمَهانةِ، الساكت عن الجهر بكلمة الحق، المهادنُ للباطل رجلاً رصيناً متعقلاً، والناطق بكلمة الحق، الصامد في وجه الطغيان والاستبدادِ والفسادِ مُتسيِّباً متهوراً متسلِّطاً، والمثقف المبدع شيطاناً، والشيطان المضلل مثقفاً.
وكذلك يُسمى المجاهد إرهابياً، والإرهابي مجاهداً، والمستعمِر المغتصِب بريئاً ومضطهداً، والمستعمَرُ المشرد المقتَّلُ المدافع عن أرضه ووطنه وعرضه مخرباً ومجرماً.
والعاريةُ العارضةُ لعرضها وشرفها، المتبرجة بزينتها في الشوارع، المتمردة على دينها تقدمية، والساترة لجسمها، المحافظة على عرضها، الملتزمة أوامر ربِّها رجعية متخلفة.
والمتمسِّكُ بآداب الإسلام في كل أحواله متطرفاً متعصباً، والمتفلِّتُ المتحللُ من قيود الدين، المبتدع، المعرض عن القرآن والسنةِ، المفسِّر لهما بأهوائه مسلماً معتدلاً.
أيها الإخوة: مصطلحات كثيرة دخلها تشويشٌ وتشويهٌ، والتشويشُ أصبح له (رجالٌ)، وللتشويه وسائلُ كثيرةٌ ومتعددةٌ، مقروءةٌ ومسموعةٌ ومرئيةٌ، ووراءَ كل ذلك كتائبُ وعقولٌ وطاقاتٌ مدرَّبةٌ ومبرمجةٌ وموجَّهةٌ ومزودةٌ بإمكاناتٍ رهيبةٍ تطلق القذائفَ ليلاً ونهاراً، صباحاً ومساءً.
إننا نعيش هذه الأيامَ زمنَ النفاق، وهذا من ابتلاء الله تعالى لعباده، فقد ابتلانا الله بأعداء، في كل زمان ومكان، يحاربون الدين، ويضعفوا شوكة المسلمين.
فالنفاق مرضٌ خطير وخزيٌ كبير، إنه داءٌ مهلك، ما فشا في أمة من الأمم إلا كان نذير دمارها وخرابها وسبيل شقائها وعذابها، وما حل في نفس إلا كان دليلاً على مهانتها وضياع مكانتها وعزتها وفقدان شرفها وشهامتها، والنفاق عارٌ في الدنيا، ونار في الآخرة.
قال المولى تبارك وتعالى:
﴿ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا ﴾
[النساء: 145]
وقال الله تعالى:
﴿ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾
[التوبة: 67]
فما أبأس من ابتلاه الله بهذا الداء، فهو مرض خطير وجرم كبير، تجعل صاحبها في شتات، ويعيش دائماً في حيرة، ويتقلب في خداع ومكر، ويحرص على نشر هذا المرض وغيره من الأمراض التي تشبهه، فهو ليستطيع العيش بمرضه لابد من ان يتعايش مع قوم مثله مرضى، فهم دائما في تردد وتشتت، ولا يستقرون على مبدأ
قال تعالى:
﴿ مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا ﴾
[النساء:143].
لو نظرت إلى تصرفاتهم لوجدتها كلها ريب، وأحوالهم كلها شك، ولا يبحثون إلا على مصالحهم، وحيثما تكون مصلحتهم ينتفعون، ولو أضروا غيرهم، ويتصالحون مع من مصلحتهم معه، فإذا لقوا المؤمنين أظهروا الإيمان والموالاة غروراً منهم للمؤمنين، ومصانعة، وتقية، وطمعاً فيما عندهم من خير ومغانم ... وإذا لقوا سادتهم وكبرائهم قالوا نحن معكم على ما أنتم عليه من الشرك، والكفر كما.
قال سبحانه عنهم:
﴿ إِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ﴾
[البقرة14-15].
إن أهم سمة وأخطر صفة لهذا العدو الهدام المدمر هي صفة الخفاء فهو خلال المجتمع المسلم، داخل خلال المجتمع المسلم، يظهر التعاطف معهم ويخفي كفره وعداوته معه في باطنه، فالمكر والخداع والكذب هي أساليبه وأدواته لكن إذا سنحت الفرصة ووجد ثغرة ينفذ منها لضرب المسلمين فإنه يكون حينئذ أشد قسوة ووحشية ونكاية للمؤمنين من أي عدو مجاهر.
﴿ كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ ﴾
[التوبة: 8]
وقد عرض القرآن صورا لهؤلاء المرضى شتى، ففضحهم في سور، وذكر أوصافهم في سور، وعرّف بعقابهم في سور أخرى، ففضحهم الله تعالى، وأنزل سورًا وآيات تبين صفاتهم ومكرهم ومؤامراتهم؛ حتى يحذرهم المؤمنون، ولا يغتروا بكذبهم، ومما أنزل الله فيهم سورة "المنافقون" التي سُمِّيت باسمهم؛ وفي مطلعها.
يقول سبحانه:
﴿ إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ ﴾
[المنافقون:1].
ومن يتأمَّل حديث القرآن الكثير والكثيف عن النفاق والمنافقين، يدرك أنه يتناول خطراً ماحقاً وضرراً مفجعاً استحق أمر التحذير منه والتوجيه إلى مواجهته استغراق صفات النفاق آيات كثيرة، حيث كان الحديث عنهم في القرآن في 17 سورة مدنية من 30 سورة، واستغرق ذلك قرابة 340 آية، حتى قال ابن القيم رحمه الله: "كاد القرآن أن يكون كله في شأنهم".
إن الله تبارك وتعالى صنف عباده في أول سورة البقرة إلى مؤمنين وكافرين ومنافقين، وأنزل في ذلك عشرين آية في أول هذه السورة.
منها ثلاث آيات في وصف المؤمنين وآيتان في وصف الكافرين، وثلاث عشرة آية في وصف المنافقين، بين فيها أحوالهم وكشف أسرارهم وصور طبائعهم ونفسياتهم وطريقة تفكيرهم ومنطقهم.
وقد تحدث القرآن عن المنافقين في مواضع كثيرة. وفي سور عديدة وأكثر ما تحدث عنهم في سورة التوبة حتى سميت الفاضحة لأنها فضحت المنافقين وكشفت أحوالهم وبينت أسرارهم ودواخلهم وخططهم ثم فرغت سورة بأكملها للمنافقين كشفت أيضًا أسرارهم وأساليبهم وبينت شيئًا من خططهم سميت سورة المنافقين كل هذا لتحذير المجتمع المسلم من خطر هذا العدو الهدام الذي يحاربهم من داخلهم، ويسعى إلى تدميرهم خلسة وخفية حتى لا تراه الأعين ولكن يجب أن تكتشفه البصائر.
فهل مُنية الأمة بالهزائم والنكبات إلا وورائها ذئاب المنافقين.
قال الله تعالى مبينا ذلك
﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ﴾
[الحشر: 11]
ويقول سبحانه:
﴿ وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ ﴾
[البقرة: 14]
ولقد بشرهم الله تعالى بالعذاب الأليم فقال:
﴿ بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا * الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا ﴾
[النساء: 138، 139]
وكذلك سورة التوبة بيَّنت كثيرًا من صفاتهم؛ حتى سميت بالفاضحة والكاشفة والمبعثرة؛ لأنها فضحتهم، وكشفت حقيقتهم، وبينت مكرهم.
ذكرهم الله تعالى في كتابه العزيز في سبع عشرة سورة في ثلاثمائة آية؛ قال ابن القيم رحمه الله: "كاد القرآن أن يكون كله في شأنهم".
فهم بلا شك أشد الناس عداوة للإسلام والمسلمين؛ فخطرهم أشد من خطر الكافر الظاهر؛ لأن كذبهم ينطلي على كثير من المسلمين، فيظنون أنهم على خير؛ حيث يتظاهرون بالإسلام وينسبون أنفسهم للمسلمين.
ومن الممكن ان يتصف الإنسان بصفاتهم وهو لا يشعر، فهو ليس له شروط، إنما يتسلل للنفس، ويتمكن من القلب، ولنسلم منه فلابد أولا أن نخافه ونستعيذ بالله منه، كما كان الصالحون من قبلنا من أول الصحابة إلى ما بعد ذلك، فمع عمق إيمانهم وكمال علمهم كانوا يخافون النفاق أيما خوف.
فكان أبو الدرداء رضي الله عنه إذا فرغ من التشهد في الصلاة يتعوذ بالله من النفاق، ويكثر التعوذ منه فقال له أحدهم: ومالك يا أبو الدرداء أنت والنفاق؟ فقال دعنا عنك، فو الله إن الرجل ليقلب عن دينه في الساعة الواحدة فيخلع منه.
وها هو التابعي الحافظ الثقة ابن أبي مليكة رحمه الله، يقول: ((أدركت ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه))
وكان الحسن البصري رحمه الله يقول: ((ما خافه -النفاق -إلا مؤمن ولا أمنه إلا منافق)).
وسئل الإمام أحمد: ما تقول فيمن لا يخاف على نفسه النفاق؟ قال: (ومن يأمن على نفسه النفاق)؟
وفي الختام:
قد زاد البلاء وطاولت الأرضُ السماءَ سفاهةً بكثرة المنافقين هذه الأيام حيث انزوى الحياء ولفحت الألسنةُ الجامحةُ أسماعَ أهل التقوى والأدب فما بقي من المعروف إلا النذر اليسير، وهكذا بدأت الفتن بعد النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، يقول حُذَيفَةَ بنِ اليَمانِ رضي الله عنه: (إنَّ المنافقينَ اليومَ شرٌّ منهم على عهدِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، كانوا يومَئذٍ يُسِرُّونَ واليومَ يَجهَرونَ)
هذا من زمان حذيفة رضي الله عنه، فما بالنا بزماننا، وخاصة بعدما صار اليوم لهم طوابيرُ طوَّافةً باسم التدين تارةً وباسم الوطنية تارةً أخرى، قد أُتْخِمُوا من المال والوجاهة والظهور والإكرام المتبادل بين أهل المصالح على طريقة النفاق التي لا يخطؤها من باع دينه أو وطنيته في ربوع أوطان الأمة.
ألا وإن للنفاق رائحةٌ تَزْكمُ الأنوفَ كما أن للإخلاص رائحةٌ تُسْعِد الوجدان وتزيد الإيمان وتلمح فيها عطر المعاني الحسان، وكلمات المنافقين كالماءِ الحارِّ في اليوم الصائف لا تروي ولا تشفي الغُلة، وفي جملة منطقهم سرابٌ خداعٌ يزيد الطين بِلَّةً والمريضَ عِلَّةً.
فلنعرفهم كما وصفهم القرآن، ولنخالفهم ولا نصدقهم، ولا نمنحهم أكثر مما يستحقون فهم سوس المجتمع وقوارض المحبة والاحترام بين الناس، وكلما زادوا وتوغلوا آذنت الدنيا بضيق الأنفاس ومفارقة القيم والمعاني الرائعة التي تحفظ ما تبقى فينا من النضارة والوقار. نسأل الله تعالى أن يقينا من النفاق وأهله وأن يحفظ الأمة من مكرهم وكيدهم