عوامل السرور والفرح
يقع الكثير من المسلمين في خطأ كبير حين يقصرون العبادة على الشعائر التعبدية فحسب، ويفوت أمثال هؤلاء على أنفسهم خيرًا كثيرًا وفضلًا عظيمًا حين يحصرون طاعة الله في الصلاة والصيام والزكاة والحج، مع عظم مكانتها ومنزلتها في دين الله.
بيد أن هناك الكثير من الأعمال الصالحة التي يمكن أن يدرك من خلالها المسلم منزلةً عظيمةً عند الله، وينال بفعلها الأجر العظيم والمثوبة الكبرى، ولعل من أبرز هذه الأعمال وأكثرها مثوبةً ومنزلةً ومكانةً عند الله: "إدخال السرور على قلوب المسلمين".
إنَّ الفرحَ والسرورَ من نعيم القلب ولذته وبهجته، كما أن الهم والحزن من أسباب نكده وبؤسه، ولقد جاءت شريعة الرحمن بما يراعي حاجات الفطرة البشرية، وبما يهذِّب سلوكَها وانفعالاتها، فالله -جلَّ جلالُه- خالقُ الخلقِ، وهو أعلم بحالهم، وبما يَصلُح لهم، وقد جعَل سبحانه الفرحَ والسرورَ ثمرةً للرضى واليقين.
قال تعالى:
{أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}
[الْمُلْكِ14]
، فأهلُ الإيمان يفرحون بما بعَث اللهُ به رسولَه من الهدى
قال تعالى
{وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ}
[الرَّعْد36]
ولذلك فإن أَجَلَّ مراتبِ الفرحِ، وأسماها وأعلاها، الفرحُ بالإسلام والإيمان، وبهداية السُّنَّة والقرآن، ممَّا يُوجِب انبساطَ النفس وانشراحَها، وسرورَها ونشاطَها، ورغبتَها في العلم والإيمان، وشُكْر المنعِم المنَّان،
يقول جل شأنه:
{قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ}
[يُونُس: 58]
وإن من أسباب بهجة القلب وسروره، في الدنيا والآخرة، إدخالَ الفرحِ والسرورِ على قلوب الناس، وكلما زاد عطاءُ الإنسان، زادت سعادتُه وسرورُه، فالجزاءُ من جنس العمل، وهل جزاءُ الإحسانِ إلا الإحسانُ.
وهو عمل من أحب الأعمال إلى الله
وقد ذكرها رسول الله في الحديث الذي يرويه سيدنا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
((أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس، وأحب الأعمال إلى الله سرور تدخله على مسلم، أو تكشف عنه كربةً أو تقضى عنه دينًا أو تطرد عنه جوعًا))
إدخال السرور على قلوب الناس، من خلال إسعاد النفوس وإدخال البِشْر إليها، ورسم البسمة على الوجوه، وصنع البهجة في النفوس، وهذا أمر لا يدركه إلا الأنقياء والأصفياء من عباد الله، ولا تستطيعه إلا النفوس الكبيرة العظيمة، ولا يقوى عليه إلا الكبار حقًّا.
أما من ابتلي بداء السلبية أو الأنانية، فلا يرى إلا نفسه وخاصته، وأمثال هؤلاء لا يمكنهم تحصيل شيء من هذا الخلق السامي.
ولذلكم إدخال السرور على الناس قيمة عالية من قيم هذا الدين العظيم، وقد رتب عليه الشارع الحكيم أعظم الجزاء وأوفره.
ففي الحديث الذي رواه سيدنا ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
((إن أحب الأعمال إلى الله تعالى بعد الفرائض إدخال السرور على المسلم))
وفي الحديث قال صلى الله عليه وسلم:
((إن من موجبات المغفرة إدخال السرور على أخيك))
وفي الحديث أيضا عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
((من أدخل على أهل بيت من المسلمين سرورًا، لم يرضَ الله له ثوابًا دون الجنة)).
وفي الحديث أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال:
((مَنْ لَقِيَ أخاهُ المسلمَ بما يُحِبُّ؛ لِيَسُرَّهُ بذلك، سَرَّهُ اللهُ يومَ القيامةِ))
فإدخال السرور على الآخرينَ، من أفضل الأعمال وأحبِّها إلى الله، ومن أسباب نَيْل رحمتِه ومغفرتِه، ودخولِ جنَّتِه.
وعن ابن عمر -رضي الله عنهما-،
أن رجلًا جاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "يا رسول الله، أيُّ الناسِ أحبُّ إلى الله؟ وأيُّ الأعمالِ أحبُّ إلى الله؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: ((أحبُّ الناسِ إلى اللهِ -تعالى- أنفعهم للناس، وأحبُّ الأعمالِ إلى الله -تعالى- سرورٌ تُدخِلُه على مسلمٍ، أو تَكشِف عنه كُرْبةً، أو تَقْضِي عنه دَيْنًا، أو تطرُدُ عنه جوعًا، ولَأَنْ أمشي مع أخي في حاجة، أحبُّ إليَّ مَنْ أن أعتكفَ في هذا المسجد شَهْرًا"
يعني مسجدَه -صلى الله عليه وسلم- بالمدينة.
ولما سُئل بعض الصحابة ما بقي من لذاتك في الدنيا؟ قال: إدخال السرور على الإخوان.
وهذا الإمام مالك يسأله سائل فقال: "أي الأعمال تحب؟"، فكان الجواب: "إدخال السرور على المسلمين، وأنا نذرت نفسي أن أفرج كربات المسلمين".ؤ ير
قال ابن القيم -رحمه الله تعالى-: "وقد دلَّ العقلُ والنقلُ، والفطرةُ وتجاربُ الأممِ -على اختلاف أجناسها ومِلَلِها ونِحَلِها- على أن التقرُّبَ إلى رب العالمين، وطلَبَ مرضاته، والبِرَّ والإحسانَ إلى خَلْقِه، من أعظمِ الأسبابِ الجالبةِ لكل خير، وأضدادَها مِنْ أكبرِ الأسبابِ الجالبةِ لكلِّ شرٍّ، فما استُجلِبَتْ نِعَمُ اللهِ، واستُدفِعَتْ نقمتُه، بمثلِ طاعتِه والتقربِ إليه، والإحسانِ إلى خَلْقِه".
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحرص على أن يكون المرء مدخلًا للسرور على قلوب إخوانه المسلمين بأي عمل، وبأي طريقة أو صورة، والأعمال والطرق التي تدخل السرور على الناس لا يمكن إحصاؤها أو عدها أذكر منها على سبيل المثال: -
الاهتمام بشؤون المسلمين وتفريج كرباتهم
فالاهتمام بشؤون الناس، وتفريج كرباتهم، من طُرُق إدخال السرور على الناس، والحرص على السعي في قضاء حوائجهم مما يؤصل عوامل الفرح في قلوبهم، وهذا بابٌ عظيمٌ من أبواب الخير والأَجْر، وسِمةٌ من سمات المؤمنين الصادقين، الذين هم في توادِّهم وتراحُمِهم وتعاطُفِهم، مثل الجسَد، إذا اشتكى منه عضوٌ، تداعى له سائرُ الجسدِ بالسَّهَر والحُمَّى.
فلذا كان سلفُنا الصالحُ من نبلاء الإسلام وأعلام الأمة، يتقرَّبون إلى الله -تعالى-، بقضاء حوائج الآخَرينَ ونفعِهم والسعيِ إلى تفريج كرباتهم، وبَذْل الشفاعة الحَسَنة لهم، ففي (شُعَب الإيمان للبيهقي):
أن ابن عباس -رضي الله عنهما-،
كان معتَكِفًا في مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فأتاه رجلٌ فسلَّم عليه ثم جلَس، فقال له ابن عباس: "يا فلان، أراكَ كئيبًا حزينًا، قال: نعم، لفلان عليَّ حقٌّ وما أقدِرُ عليه، قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: أفلا أُكَلِّمُه فيكَ، قال: إن أحببتَ، قال: فانتَقَل ابنُ عباس ثم خرَج من المسجد، فقال له الرجلُ: أنسيتَ ما كنتَ فيه -أَيْ: من الاعتكاف-، قال: لا، ولكنِّي سمعتُ صاحبَ هذا القبر -صلى الله عليه وسلم- وهو يقول: ((مَنْ مشَى في حاجةِ أخيه، وبلَغ فيها، كان خيرًا من اعتكافِ عشرِ سنينَ))
وفي رواية:
((ومَنْ مشَى مع أخيه في حاجة، حتى يتهيَّأ له، أَثْبَتَ اللهُ قدمَه يومَ تزول الأقدامُ)).
الهدية
تلك الوسيلة التي لها الأثر الكبير في استجلاب المحبة، وإثبات المودة، وإذهاب الضغائن، وتأليف القلوب؛ وذلك فقد قبل النبي صلى الله عليه وسلم الهدية ومنحها، وأقرّها، وأخذها من المسلم والكافر، والصغير والكبير، بل حث عليها
بقوله صلى الله عليه وسلم
((تهادوا تحابوا))
الابتسامة
الابتسامة شعار من شعائر الأنبياء، وسنة من سنن المرسلين، وصفة من صفات المؤمنين، ولغة سامية من لغات الحضارة البشرية.
إن خير من مشى على هذا الكوكب، وخير من وطئ قدمه الثرى، وأجمل من نظرت إليه الأعين، وألين من صافحته الأكف، كان أكثر الناس تبسمًا، وكما قال جرير بن عبد الله البجلي رضي الله تعالى عنه: "ما حجبني رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أسلمت ولا رآني إلا تبسم في وجهي"
وهو القائل -صلى الله عليه وسلم-:
((تبسمك في وجه أخيك صدقة))،
وفي حديث آخر يقول عليه الصلاة والسلام:
((لا تحقرن من المعروف شيئًا ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق)).
الكلمة الطيبة
يقول ربنا عز وجل:
﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾
[البقرة:83]،
أي: الكلام الطيب.
ويقول عز وجل مبينًا فضل ذلك وهو يختار لعباده أن يتكلموا بأحسن الكلام:
﴿وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾
[الإسراء:53]
يعني: يختار أطيب الكلمات ثم يتكلم بها.
وقال عليه الصلاة والسلام:
((الكلمة الطيبة صدقة))
، وقال صلى الله عليه وسلم:
((اتقوا النار ولو بشق تمرة... قال: فمن لم يجد فبكلمة طيبة)).
السلام:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
((لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أوْلَا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم))
وإفشاء السلام في الإسلام ليس تقليدًا اجتماعيًّا، أو عرفًا قبليًّا يتغير ويتطور تبعًا للبيئة والعصر، وإنما هو أدب ثابت ومحدد.
فلنعوِّد أنفسنا أن نسلّم على من عرفنا ومن لم نعرف، سواء كانوا أغنياء أو فقراء، صغارًا كانوا أم كبارًا؛
ففي الحديث أن رجلًا سأل النبي صلى الله عليه وسلم:
أي الإسلام خير؟ قال: ((تطعم الطعام، وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف))
كما بين فضلها ربنا سبحانه وتعالى
فقال:
﴿وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ﴾
[النور: 33]،
فهو ليس مالنا ولا مال ءابآءنا، إنما هو مال الله جعله بين أيدينا،
قال تعالى:
﴿وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ﴾
[النور33]
ففي تلك الإعانة وهذه الصدقة إدخال للسرور على المحتاج.
واعلم أنك ما تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله تعالى إلا رزقك الله تعالى خيرًا منها، وكلنا يا عباد الله نتعامل مع رب كريم
﴿وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ﴾
[سبأ39]
أن مما يحبُّه الله ويحبُّ فاعليه السعيُ في حاجة الناس؛ فإن نصوص الشريعة متظاهرةٌ على ذلك، حتى غدا بابَ خيرٍ عظيمًا تحتاجُه الأمة ويحتاجه الفرد؛ لكن – يا للحسرة -يكاد المسلمون يُقلِعون عنه بالكلية اليوم؛ فحسبنا الله ونعم الوكيل، وإنا لله وإنا إليه راجعون.