مظاهر الرقي في الأمم


فريق عمل الموقع

كل أمة في حركة دائمة وتغير مستمر؛ فهي لا تعرف القرار والثبات على حال، غير أن هذا التغيُّر قد يكون إلى حال خير مما كانت عليه، وقد يكون إلى أسوأ، فإن كان الأول سمَّيناه رقيًّا وتقدمًا ونجاحًا، وإن كان إلى أسوأ سمَّيناه تدهورًا وتأخرًا وانحطاطًا.

والأمم قبلنا لا نعلم حالها بصدق وواقعية، ولا يوجد لدينا مصدر صادق لا يكذب ينقل أحوالهم كالقرآن الكريم، فهو كتاب هداية وإرشاد للعباد وليس كتابا لذكر عجائب الدنيا، فهو منهج لتقويم الحياة والمجتمع على أساس الرابطة بينهم وبين ربهم.

ثم إن الذي خلق الإنسان من عدم وصوره ونفخ فيه من روحه وخلق السماوات والأرض وما بينهما قد أحكم صنع كل شيء ودعا الناس -سبحانه- إلى التفكر في مخلوقاته،

قال الله تعالى

[ أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ* وَإِلَى السَّمَاء كَيْفَ رُفِعَتْ* وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ ]

{الغاشية:17-18-19}

وقال تعالى

 سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ 

{فصلت:53}

وقال تعالى

 وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ* وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ 

{الذاريات:20-21}

إن القرآن كتاب كامل في موضوعه، ويمكننا الانطلاق منه للبحث عن رقي لحياتنا، بل ونستشرف أيضا معالم مستقبل حياتنا المنشودة، وذلك بالبحث عن حركة الأمم في صعودها ورقيّها، فعوامل التقدم والرقي عبارة عن سنن ثابتة في القرآن تسير على وفقها الأمم من خلال نواميس وسنن.

إن رُقيَّ الأمم وتقدّمها، وسقوطها وانحطاطها، واستقلال أمورها وازدهار حضارتها مشروط بشروط طبيعية، كالسنن الطبيعية التي سنَّها الله تعالى في هذا العالم من تمدُّد الأشياء بالحرارة، وانكماشها بالبرودة، وانجذابها وفقًا لقانون الجاذبيَّة، وكهربتها وفقًا لقانون الكهربة، وحصول المسببات عقب الأسباب.

     فأيُّ أمة توفَّرت فيها تلك الشروط رقيت وتقدَّمت، وبقدر ما حققت الشروط كان بمقدارها رقيُّها وتقدُّمها. ولا يعبأ الله بالأسماء مسلمًا كان أو كافرًا، أو نصرانيًّا أو وثنيًّا. يقو ل المثل العربي: من سار على الدرب وصل.

     فقوانين الرقي والانحطاط واحدة في جميع الأمم، وطبيعية كطبيعة الشمس تطلع على المؤمن والكافر، وكالزرع يُنبت للجميع: للمؤمن والكافر.

إن الرقيّ ليس مقصورًا على أمة دون أمة، ولا حكرًا على أهل دين دون آخرين، إنما هي كالقوانين الطبيعية، تقدم من سار عليها ومن لم يسر عليها تأخَّر، سواء كان مسلمًا أو كافرًا أو وثنيًا.

     إذا استوفت أمة شروط الرقيِّ والتقدم رقيت وتقدَّمت لامحالة، وإذا كانت هذه الشروط عشرة فاستوفت تسعة أو ثمانية كان تقدُّمها بمقدارها، والدين أحد هذه الشروط لا كلها.

فالمشركون لو توفَّرت فيهم هذه الشروط كلّها ماعدا الدين تقدّموا تقدّمًا ناقصًا بقدر عامل الدين الصحيح.

     ولذلك نرى أنَّ كثيراً من الأمم الكافرة المعاصرة تستوفي تلك الشروط فتتقدم وتنهض، ولما كان ينقصها الدين الصحيح فتقدُّمها ناقص لا كامل؛ لأن تقدُّمها في الحياة الدنيا، ولا خلاق لها في الآخرة.

وقد ذكر لنا القرآن عوامل للرقي والاستخلاف، طبقها جيل الصحابة، فكانوا أرقى مجتمع عاش على وجه الأرض.

لقد تقدَّم المسلمون في عهد الرسالة وصدر الإسلام عند ما توفَّرت فيهم هذه الشروط كلها، وإن تغيَّرت صيغُها وأسماؤها، فقد كانوا يحملون ديناً يُوفي بهذه الشروط، فقد كانوا: -

  • متحدين غير متفرقين:
  •  أولي غاية وهدف واحد

    {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْـمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْـمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِالله} 

    [آل عمران:110]

    فضربوا أعظم الأمثلة في الاتحاد، وكانوا علامات بارزة في حياة الناس، فكانوا إخوانا متعاونين ومتعاضدين؛ فلا انقسامَ ولا تفرُّقَ،

    قال تعالى

    {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}

     [آل عمران:103]

  • يتشاورون في الأمور العامة وكذلك في أمورهم وقضاياهم، فلا استبدادَ ولا أنانيةَ،

    {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُم}

    [الشورى: 38]

  • قوةً مرهبةً لأعداء الله وأعدائهم

    «وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآَخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ»

     [الأنفال:60]

  • عادلين مقسطين، وقد أمرهم الله تعالى بالعدل والقسط، فقال:

    «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ للهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}

     [المائدة 8]

  • أبعدَ خلقِ الله عن الترف والنعيم الذي يُهلك الأمم، ويُفنيها؛ لأن القرآن قصَّ عليهم سنة الله في المترفين حيث قال:

    {وَإِذَا أرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا}

    [الإسراء:16]

  • يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويدعون إلى الإصلاح، ويستنكرون الفساد، وهذه الطائفة من الصالحين المصلحين هي تحفظ الأمة من الوقوع في هاوية التردي والهلاك، وهي كالأطباء للأفراد، يشخصون الأمراض ويصفون لها الدواء، فبقدر جدِّ هذه الطائفة ونشاطها تكون حياة الأمم، وبقدر ضعفها تضعف الأمم،

    وقد قال الله تعالى

    {فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} 

    (هود:117)

    وقال تعالى

    {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ}

    [الأنبياء:105]

لقد تحقَّق وعدُ الله تعالى باستخلافهم في الأرض، وتمكين دينهم الذي ارتضى لهم، كانوا كتلة واحدة توحَّدت غاياتها، وتوحَّدت عقيدتها، وتوحَّدت تقريبًا جنسيتُها، ولهذا كانوا قوَّة كبرى أطاحت بدولتين عظيمتين: دولة الفرس ودولة الروم، وفتحوا الفتوح، ونظَّموا شعب الحياة كلها تنظيمًا رائعًا، وحكموا العباد والبلاد، وقادوا العالم.

حيث قال

{وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}

[النور: 55]

تلك بعض سنن الله في رقي الأمم وانحطاطها وحياتها وفنائها جاء ذكرها في القرآن الكريم والسنة المطهرة، وعاش عليها جيل مجتمع الصحابة، فكانوا أسعد الناس وأكثرهم رقيا.

ومن أراد أن يرتقي بأمته، فليحاول نشر هذه السبل، فمن اتبعها وسار عليها أمِنَ الانحطاط والفناء ونال الرقيَّ والبقاء، ومن تهاون فيها صار عرضةً للضعف والانهيار والفناء.

مقالات مرتبطة بـ مظاهر الرقي في الأمم

معرفة الله | علم وعَملIt's a beautiful day