مثال ضعف الطالب والمطلوب

إنه مثل ليس كسائر الأمثال، بل هو مثل أمر الله بالاستماع له، لا تقرأه فقط بل اقرأه واستمع له بأذن قلبك، سواء سمعت نفسك أو سمعت غيرك، فهو مثل يحتاج الإنسان إلى سماعه مع قراءته، مثل ضربه الله منبِّهًا على سخافة عقول من يشرك مع الله أحدا ويدعو معه إلها آخر، مقرِّرًا -بهذا المثال -ضعف الجميع وعَجْزَهم، محتجًّا عليهم بالعقل الصحيح، ومقتضى الفطرة السليمة، موضحا قبح عبادة الأوثان، وبيان نقصان عقول من عبدها، وضعف الجميع، ف ﴿يَا أَيهَا النَّاسُ﴾ انتبهوا، لينتبه كل الناس مؤمنهم وكافرهم ﴿ضُرِبَ مَثَلٌ﴾ ومطلوب منكم أن تستمعوا ﴿فَاسْتَمِعُوا لَهُ﴾ وتدبروه، ألقوا إليه أسماعكم، وتفهموا ما احتوى عليه، ولا يصادف منكم قلوبا لاهية، وأسماعا معرضة، بل ألقوا إليه القلوب والأسماع.

ما هو المثال المضروب والذي نحتاج أن نستمع له؟ هذا المثل هو ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ﴾ من آلهة مدعاة، من أصنام وأوثان، ومن أشخاص وقيم وأوضاع، تستنصرون بها من دون الله، وتستعينون بقوتها وتطلبون منها النصر والجاه.. كلهم ﴿لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ﴾ إن الأصنام والأنداد التي تعبدونها من دون الله لن تقدر مجتمعة على خَلْق ذبابة واحدة، الذي هو من أحقر المخلوقات (من حيث الحجم والاستخدام، وإلا فكل خلق يخلقه الله عظيم) أو (ما تعتبرونه أنتم حقيرا) ولكن هذا الذباب الضعيف والضئيل، لا يقدر أحد على خلقه فضلا عن خلق ما هو أكبر، فضلا عن أخذ شيء منه، فياله من ضعف تلو ضعف، ونقص تلو نقص في من تحسبونها آلهة.

وخص الله المثال بالذباب، وترك ما هو أقل منه حجما ووزنا لأن المشركين كانوا يضعون الطعام بين يدي الأصنام فتقع الذباب عليه فيأكلن منه، فكانوا يحلون الأصنام باليواقيت واللآلئ وأنواع الجواهر، ويطيبونها بألوان الطيب فربما تسقط منها واحدة فيأخذها طائر أو ذباب فلا تقدر الآلهة على استردادها، فقال تعالى:

﴿وَإِن يَسْلُبهُمُ الذُّبَابُ شَيئًا لّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ﴾ فلا تقدر أن تستخلص ما يسلبه الذباب منها، فهل بعد ذلك مِن عَجْز؟

ولو قال: وإن تسلبهم السباع شيئاً لا يستنقذوه منها لأوحى ذلك بالقوة بدل الضعف، والسباع لا تسلب شيئاً أعظم مما يسلبه الذباب! ولكنه الأسلوب القرآني العجيب الذي يبهر كل من يقرأه أو يستمع له، فكان اختيار الذباب للتمثيل به في غاية الحكمة. فليعرف كل أحد إذا قدر نفسه فالله عز وجل خلق الأشياء وسخرها لكم، وخلق أشياء ولم تقدروا على تسخيرها إلا أن يشاء الله سبحانه وتعالى.

﴿ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ﴾ فهما ضعيفان معًا، فالكل ضعيف، والقادر القوي هو الله المستحق للعبودية حقا، {ضَعُفَ الطالب} الذي هو المعبود من دون الله أن يستنقذ ما أخذه الذباب منه، وضَعُفَ {المطلوب} الذي هو الذباب، فكيف تتَّخذ هذه الأصنام والأنداد آلهة، وهي بهذا الهوان؟