المثال الثاني مملوك وحر.. لا يستويان

من أمثلة القرآن العظيمة التي ساقها الله مثالا غاية في الإعجاب، متناهيا في الفصاحة والبيان،

ساق الله تعالى هذا المثال ليَدُل الناس على وحدانيتِه وقدرتِه، وعلى بُطلانِ الشِّركِ، فزَجْرَهم عن أن يُشبِّهوا اللهَ بخَلقِه، أو أن يُشبِّهوا الخلقَ بربِّهم، وذلك بتمثيلِ حالِهم في ذلك بحالِ عبدين، وضرب المثل بالعبدين لأنه يريد إنكار ما هم عليه من صرف عباداتهم لغير الله، فهذان العبدان هما: -

• أحدهما: - عبد مملوك لا يقدر على شيء، {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ} فالله قد شبَّه حالَ أصنامِهم في العجزِ عن رزقِهم، بحالِ مملوكٍ لا يَقدِرُ على تَصرُّفٍ في نفسِه، ولا يَملِكُ مالًا، فهو مملوك ليس حرا.
• الثاني: -حر مالك رزقه الله {وَمَنْ رَزَقْنَاهُ} رزقا واسعا حلالا حسنا {مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا} أي: من عندنا وحدنا وليس من عند غيرنا، فشبَّه شأنَه تعالى في رزقِه إيَّاهم بحالِ غنيِّ صاحِبَ رِزقٍ حسَنٍ.

وأيضا {فَهُو يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا} يتَصرَّفُ في رزقِه بالإعطاءِ، وهذا كمالٌ آخَرُ، وكِلاهُما بضِدِّ نَقائِصِ المملوكِ الَّذي لا يَقدِرُ على شيءٍ من الإنفاقِ، ولا ما يُنفَقُ مِنه.

إنه إنسان كريم، لا يبخل بشيء مما رزقه الله، بل ينفق منه في عموم الأحوال، وعلى من تحسن معه النفقة سرا، وعلى من تحسن معه النفقة جهرا.

والمقصودُ نفيُ المماثَلةِ بينَ الحالَتَينِ، فكيف يَزعُمون مُماثَلةَ أصنامِهم للهِ تعالى في الإلهيَّةِ؟! ولذلك أُعقِب بجُملةِ:

{هَلْ يَسْتَوُونَ} أي: هل يستوي في عرفكم أو في عرف أي عاقل، هذا العبد المملوك العاجز الذي لا يقدر على شيء.. مع هذا الإنسان الحر المالك الذي رزقه الله - سبحانه - رزقا واسعا حلالا، فشكر الله عليه، واستعمله في وجوه الخير.

إن مما لا شك فيه أنهما لا يستويان حتى في نظر من عنده أدنى شيء من عقل.

ومادام الأمر كذلك، فكيف سويتم - أيها المشركون الجهلاء -في العبادة ، بين الخالق الرازق الذى يملك كل شيء، وبين غيره من المعبودات الباطلة التي لا تسمع ولا تبصر ولا تعقل ولا تملك شيئا.

والغرَضَ من هذا التَّشبيهِ: -

أنَّ المثَلَ مُرادٌ منه عدَمُ تَساوي الحالَتَينِ؛ لِيَستدِلَّ به على عدَمِ مُساواةِ أصحابِ الحالةِ الأُولى لِصاحِبِ الصِّفةِ المشبَّهةِ بالحالةِ الثَّانيةِ. والاستِفْهامُ مُستعمَلٌ في الإنكارِ  

وذيَّل هذا التَّمثيلَ بقولِه:

{الْحَمْدُ لِلَّهِ} ثناء منه - سبحانه - على ذاته، حيث ساق - سبحانه - هذه الأمثال الواضحة للتمييز بين الحق والباطل.

فقل - أيها الانسان المؤمن العاقل ((الحمد كله لله)) على إرشاده لعباده المؤمنين، وتعليمهم كيف يقذفون بحقهم على باطل أعدائهم فإذا هو زاهق.

فالذي أنعم هو الله، فوجَب أن يَختَصَّ بالشُّكرِ، أما الآلهة التي تُعبد من دونه فلا تَستحِقُّ أن تُشكَرَ.

{بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} أي: بل أكثر هؤلاء الكافرين الضالين، لا يعلمون كيف يميزون بين الحق والباطل لانطماس بصائرهم، واستيلاء الجحود والحسد والعناد على قلوبهم.

هذا هو المثال الأول الذي ذكره الله - تعالى - للاستدلال على بطلان التسوية بين عبادة الله - تعالى - الخالق لكل شئ والمالك لكل شيء.. وبين عبادة غيره من الأصنام والجمادات التي لا تخلق شيئا، ولا تملك شيئا، ولا تضر ولا تنفع