المثال الأول ان الله لا يستحيي


المثال الأول ان الله لا يستحيي

المثال الأول

ما أحوجنا لفهم أمثلة القرآن، فغرضها التفهيم، أما من قرأ المثل ولم يفهم قصده فليبك على قلبه.

وموعدنا اليوم مع مثل عظيم من أمثلة القرآن العظيمة، يقول الله تعالى: -

﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلًا مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ﴾

[البقرة:٢٦]

المعنى العام للمثل: -

اللَّه سبحانه وتعالى ﴿لاَ يَسْتَحْيي أن يضربَ مثلاً ما بَعُوضَةً فَمَا فَوقَهَا﴾ وذلك لاشتمال الأمثال على الحكمة وإيضاح الحق، والله لا يستحيي من الحق، وهذا من تعليم الله لعباده ورحمته بهم، فيجب أن تتلقى تلك النعم بالقبول والشكر، ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ﴾ فيتفهمونها، ويتفكرون فيها، فيزداد بذلك علمهم وإيمانهم، حين يعلموا ويتعلموا أنها حق، وأن ما اشتملت عليه حق، وإن خفي عليهم وجه الحق فيها لعلمهم بأن الله لم يضربها عبثا، بل لحكمة بالغة، ونعمة سابغة، ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا﴾ فيعترضون ويتحيرون، فيزدادون كفرا إلى كفرهم، كما ازداد المؤمنون إيمانا على إيمانهم، ولهذا قال: ﴿يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا﴾ فهذه حال المؤمنين والكافرين عند نزول الآيات القرآنية، فلا أعظم نعمة على العباد من نزول الآيات القرآنية، ومع هذا تكون لقوم محنة وحيرة وضلالة وزيادة شر إلى شرهم، ولقوم منحة ورحمة وزيادة خير إلى خيرهم، فسبحان من فاوت بين عباده، وانفرد بالهداية والإضلال.

ثم ذكر حكمته في إضلال من يضلهم وأن ذلك عدل منه تعالى فقال: ﴿وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ﴾ أي: الخارجين عن طاعة الله، المعاندين لرسل الله، الذين صار الفسق وصفهم، فلا يبغون به بدلا، فاقتضت حكمته تعالى إضلالهم لعدم صلاحيتهم للهدى، كما اقتضت حكمته وفضله هداية من اتصف بالإيمان وتحلى بالأعمال الصالحة

الهدف من ضرب الله لهذا المثل:

1-    استكشاف -وبكل صراحة –والتمايز بين أهل الإيمان والتصديق، من أهل الضلال والكفر، مَنْ هو المؤمن ومنْ هو الكافر؟

  • التعرف على عظمة الله وقدرته.
  • تعبد الله بصفة الحياء وباسمه الحيي -فالله سبحانه حيي ستير -لا يمنعه حياؤه سبحانه أن يضرب مثلًا، أيَّ مثل كان، صغيرًا أو حقيرًا، صغيرِها وكبيرِها، أو غير ذلك ابتلاءً بذلك عبادَه واختبارًا منه لهم، وإضلالا منه به لقوم، وهدايةً منه به لآخرين، ما دام يثبت به الحق فالعبرة بالغاية، فالله عز وجل لا يستحيي من الحقِّ.
  • اليقين بأن المراد بالمثال ليس حقارة الممثل به ولا ضآلته ولا كبر حجمه أو وزنه، بل المراد من ضرب المثل توضيح الحقيقة المضروب لها وتبيين المراد منه، فلا التمثيل بالبعوضة عيب ولا التمثيل بالإبل والفيل كمال، وإنّما الكمال أن يكون المثل مبيناً لحقيقة وواقعة غفل عنها المخاطب من دون فرق بين كون الممثل صغيراً أو كبيراً.

إن العظمة فعلا حق العظمة هي أن تضرب الأمثال لما يراد تحقيره بحقيرها، ولما يراد التنفير بما اعتادت النفوس النفور منها.

فالملاك: -هو كون المثل مفيداً لما يريد المتكلم تحقيقه، من غير فرق بين حقير الأشياء وكبيرها. وهو سبحانه يشير إلى ذلك المعنى بقوله: ﴿إنَّ الله لا يَسْتَحْيي أن يضربَ مثلاً ما بَعوضة﴾ (بل) فوقها في الصغر كالجراثيم التي لا ترى إلاّ بالمجهر.

ومن الممكن ان يتسائل سائل فيقول:

لماذا يضرب الله مثل هؤلاء المنافقين بالبعوضة دون غيرها؟ وهل هي حقيرة فعلا كما يقال؟

والمتأمل في خلق الله يعلم ويوقن ان الله قد نوّع في خلقه، ما بين الصغير والكبير، والضئيل والضخم، ولكن ما دام قد ذكره الله، فهو من النوع الجليل لا الحقير.

فالبعوضة -وإن كان البعض يضرب بها المثل للحقارة -إلا أنها -والحق يقال -: -

  • من المخلوقات العظيمة مع صغر حجمها الخطيرة مع ضآلة وزنها، فالله قد منحها قوة هضم ودفع، كما منحها أُذناً وأجنحة تتناسب تماماً مع وضع معيشتها.
  • تتمتع بحساسية فائقة، فهي تفر بمهارة عجيبة حين شعورها بالخطر، وهي مع صغرها وضعفها يعجز عن دفعها كبار الحيوانات.
  • مع كونها ضئيلة في وزنها وحجمها ويعتبرها البعض من أحقر المخلوقات، إلا أنها ومع كل ذلك تقض مضاجع الجبابرة أليس كذلك؟ نعم، وربما لو سلطها الله على أحد تكون سببا في هلاكه، وهي هذه الحشرة الصغيرة المهينة.

البعوضة تحيا ما جاعت، وتموت إذا رَويت، فكذلك هؤلاء الذين ضرب الله لهم هذا المثل، إذا امتلئوا من الدنيا ريًّا أخذهم الله فأهلكهم،

فذلك قوله

﴿حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ}

[سورة الأنعام44]

إذا: -

علينا أن نعلم أن العبرة في المثل ليست في الحجم والشكل، إنما الأمثال أدوات للتنوير والتبصير، وليس في ضرب الأمثال ما يعاب، أو ما من شأنه الاستحياء من ذكره، إنما الله -جلت حكمته -يريد بها اختبار القلوب، وامتحان النفوس.

ويعلمنا ربنا ويرشدنا إلى أن الناس أمام تلك الاختبارات وهذه الامثال ينقسمون إلى قسمين:

  • الذين آمنوا: -﴿فيعلمون أنه الحق من ربهم﴾، ذلك أن إيمانهم بالله يجعلهم يتلقون كل ما يصدر عنه بما يليق بجلاله؛ وبما يعرفون من حكمته، وقد وهبهم الإيمان نورا في قلوبهم، وحساسية في أرواحهم، وتفتحا في مداركهم، واتصالا بالحكمة الإلهية في كل أمر وفي كل قول يجيئهم من عند الله.
  • الذين كفروا: - ﴿فَيَقُولُونَ ماذا أرادَ اللهُ بِهذا مثَلاً﴾.

وهو سؤال المحجوب عن نور الله وحكمته، المقطوع الصلة بسنة الله وتدبيره، ثم هو سؤال من لا يرجو لله وقارا، ولا يتأدب معه الأدب اللائق بالعبد أمام تصرفات الرب. فيقولونها في جهل وقصور في صيغة الاعتراض والاستنكار، أو في صورة التشكيك في صدور مثل هذا القول عن الله

وهكذا المثل الذي يضربه الله للناس ﴿يضل به كثيرا﴾ ممن لا يحسنون استقبال ما يجيئهم من الله ﴿ويهدي به كثيرا﴾ ممن يدركون حكمة الله.

ولما ذكر عز وجل أنه يُضِلُّ بالمثل كثيرًا، أَتْبع ذلك بما يدل على عدله في ذلك، وأنه لا يُضِل به إلا الفاسقين -بعدله -بسبب فسقهم، كما هدى إليه المؤمنين بفضله بسبب إيمانهم.

فذكر لنا سبب عدم القبول لنتجنبه وعلل لنا عاقبة إضلالهم ﴿وما يضل به إلا الفاسقين﴾ الذين فسقت قلوبهم من قبل وخرجت عن الهدى والحق، فجزاؤهم زيادتهم مما هم فيه! فهم قوم خرجوا عن طاعة الله.

فالمراد جاءهم في صورة التهديد والتحذير، بما وراء المثل من تقدير وتدبير، {يضل به كثيرا، ويهدي به كثيرا، وما يضل به إلا الفاسقين}

ولا غرو في أن يكون شيء سبب الهداية لطائفة وسبب الضلال لطائفة أُخرى، وما هذا إلاّ لأجل اختلاف القابليات، فمن استعد لقبول الحقّ والحقيقة فتصبح الآيات الإلهية سبب الهداية، وأمّا الطائفة الأخرى المعاندون الذين صمّوا مسامعهم عن سماع كلمة الحق وآياته فينكرون الآيات ويكفرون بذلك.

فالواجب على المسلم: -

  • التعرف على قدرة ربه وعظمته، ومعايشة صفاته الجمالية والجلالية، فالمثال هنا بصدد بيان أنّ الله سبحانه لا يستحيي أن يستدل على قدرته وكماله وجماله بخلق من مخلوقاته سواء أكان كبيراً وعظيماً كالسماوات والأرض، أو صغيراً وحقيراً كالبعوضة والذباب، إنما معنى ضرب المثل هو وصفه سبحانه بصفات الجلال أو الكمال.
  • إثبات صفة الحياء لله، فالله حيي، ويقال: إنه لا يستحي من كذا وكذا على الوجه اللائق به سبحانه، بلا مشابهة لخلقه في شيء من صفاته، ولا مماثلة، بل هو موصوف بصفات الكمال على الوجه اللائق به سبحانه، ولا يعلم كيفية هذه الصفة إلا الله، فنؤمن بأسماء الله وصفاته التي اثبتها لنفسه، ونمرّها كما جاءت، ونعتقد أنها حق، وأنها لائقة بالله وأنه سبحانه ليس له مثيل، ولا شبيه ولا نظير، وأنه أعلم بصفاته وكيفيتها من خلقه،

    ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾

    [الشورى11]

    فنمرها كما جاءت، ونقول: إنها حق، من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل.

السابق التالى

مقالات مرتبطة بـ المثال الأول ان الله لا يستحيي

  • آيات قرآنية ورد فيها اسم الله (الأول)

    فريق عمل الموقع

    وذكر اسم الله (الأول) في القرآن الكريم في موضع واحد: أولًا: الموضع الذي ذكر فيه اسم الله (الأول).{هُوَ الْأَوَّلُ

    23/05/2021 1089
  • التعريف باسم الله (الأول)

    فريق عمل الموقع

    (الأول): هو الذي يترتب عليه غيره. وهو في حق الله تعالى يدل على أن كل ما سواه حادث كائن بعد أن لم يكن. [تفسير أسماء

    23/05/2021 906
  • الأول، الآخر

    فريق عمل الموقع

    الأول، الآخر قال تعالى: (هو الأول والآخر والظاهر والباطن)، وأفضل بيان لهذين الاسمين هو بيانه ﷺ بتضرعه لربه حيث

    14/01/2021 1982
معرفة الله | علم وعَملIt's a beautiful day