المتابعة بين الإفراط والتفريط


مجدي الهلال

ليس معنى القول بأن الإيمان هو الضامن لتنفيذ التوجيهات والتكاليف أن يترك المربي تعاهد من معه، فلا يتعرف على المستوى الذي وصلوا إليه، أو المشاكل والعقبات التي تواجههم، فيختزل دوره في حيز التوجيه العام فقط.. ليس هذا هو المقصد مما قيل في الأسطر السابقة عن مفهوم المتابعة، بل المقصد أن تكون المتابعة وسيلة للوصول إلى أحسن النتائج مع ترك مساحة للأفراد يتحركون من خلالها في الإطار العام الذي يحدده لهم المربي.

... نعم، سيظهر من بعضهم تشدد، أو فتور، أو يقعون في أخطاء.. وهنا تبرز قيمة المتابعة في ضبط هذه الأمور، وتصحيح المسار، فينتج عن ذلك الوصول إلى الأهداف المرجوة من خلال الأفراد أنفسهم، لا من خلال سير المربي معهم خطوة بخطوة، ومثال ذلك: لو أن إدارة مدرسة من المدارس طلبت من المدرسين أن يوجهوا تلاميذهم لعمل بحث في موضوع ما .. فذهب أحد المدرسين إلى فصله وأخبر تلاميذه بالبحث المطلوب، وبدأ في كتابة البحث مع كل واحد منهم . يراجع معهم كل كلمة، ويضع لهم العناصر، ويتدخل في كل صغيرة وكبيرة فيه، وظل على ذلك حتى انتهوا جميعا من أبحاثهم في الموعد المحدد.

ومدرس آخر ذهب إلى فصله وأخبر تلاميذه بالبحث المطلوب، وبين لهم عناصر البحث، ودلهم على مراجعه ثم تركهم، ليطالبهم عند نهاية المدة المحددة بالأبحاث التي كتبوها.

... ومدرس ثالث بعد أن أخبر تلاميذه بالبحث المطلوب، بين لهم عناصر البحث، والخطط المقترحة لتنفيذه، والمراجع التي تخدمه، ولم يكتف بذلك، بل كان كل فترة من الزمن يقرأ ما كتبوه بأنفسهم، فيرفع واقعهم، ويتعرف على من يسير في الطريق الصحيح، ومن توسع في بعض النقاط أكثر من اللازم، ومن انحرف بالكتابة في غير موضوع البحث، ومن تسريع في الكتابة دون سبر أغوار العناصر، و... فيقوم من خلال هذا الواقع بحسن توجيه كل فرد على حدة بما يتناسب مع واقعه ليصل بالجميع إلى الهدف المنشود.

أي النماذج أصح؟

مما لا شك فيه أن تلاميذ المدرس الأول سينجحون في تقديم أبحاثهم في الوقت المحدد، وستكون أبحاثا قيمة، لكنهم كأفراد لم يكتسبوا مهارة جديدة، بل سيصبحون بحاجة إلى من يسير معهم خطوة بخطوة كلما هموا للقيام بعمل ما . وبالنسبة لتلاميذ المدرس الثاني فنتائجهم غير مضمونة واحتمالية وقوعهم في أخطاء كبيرة، فلقد تركهم مدرسهم يجتهدون بمفردهم دون أن يعمل على تقويم مسارهم.

أما تلاميذ المدرس الثالث فقد نجحوا في تقديم أبحاث قيمة مع اكتسابهم خبرة كيفية البحث بمفردهم والوصول إلى المعلومة ووضعها في مكانها الصحيح. كل ذلك حدث لأن مدرسهم تركهم يقومون بأداء العمل بمفردهم مع متابعتهم كل فترة وتقييمه لأعمالهم، وتوجيههم لكيفية تصويبها وتقويمها. وهذا هو المطلوب من المربي.. عليه أن يُحسن التوجيه وعرض المطلوب في البداية، ثم يترك من معه ليقوموا بتنفيذ ما طلب منهم، مع رفع واقعهـم كـل فترة وتقييمه وإرشادهم لكيفية تصوييه، وهكذا حتى يصلوا إلى أهدافهم، ويكونوا قد تعودوا الاعتماد على أنفسهم.

فإن كان هدف المربي تعريف من معه من الأفراد بربهم، وربطهم به سبحانه من خلال القرآن، ومن خلال الكون المحيط، فعليه أولا أن يشرح لهم كيفية استخراج جوانب المعرفة من القرآن بصفة عامة، ثم يأخذ جانبا من الجوانب كالتعرف على الله المنعم، فيبسط فيه القول، ويُعدد لهم بعضا من نعم الله، ويدلل على ذلك بالآيات المناسبة، ثم يطلب منهم استخراج النعم من سورة من سور القرآن، ويتأكد من حسن تطبيقهم للمعنى المطلوب، ثم يتركهم - عدة أيام – بعد أن يطلب منهم استخراج الآيات الدالة على النعم من وردهم القرآني، وكذلك النعم التي اجتباهم الله بها بصورة شخصية، وعندما يلتقي معهم بعد ذلك ينظر ما استخرجوه من القرآن، ومن تفكرهم في الكون والنفس، فيصوب ما يحتاج إلى تصويب، وينبه إلى ما لم ينتبه إليه، ويؤكد على المعنى مرة أخرى، مع شحذ هممهم وتفقد أحوالهم. ويكرر ذلك معهم مرة ومرة حتى يتأكد من حسن تعاملهم مع القرآن ونجاحهم في استخراج جوانب المعرفة منه، وكذلك حسن تعاملهم مع أحداث الحياة.. فإذا انتقل بعد ذلك إلى جانب آخر من جوانب المعرفة كان تطبيقه أيسر من السابق، وعندما يترك هذا الموضوع وينتقل إلى موضوع آخر، يتركه وقد تأكد من إجادتهم للتعامل معه من خلال القرآن، ومن خلال الكون المحيط، واستطاعتهم استخراج جوانب المعرفة من الآيات وربطها بأحداث الحياة.

ومع ذلك فعليه كل فترة من الزمن أن يتأكد من استمرار نهلهم من منبع القرآن وظهور آثار ذلك على أعمالهم.

والملاحظ في سيرة رسول الله لو أنه كان يوجه أصحابه إلى منابع الإيمان، ثم يتفقدهم ويتابعهم ويطمئن على مدى تعاملهم معها .. ففي الحديث الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال لأصحابه يوما:

«من أصبح منكم اليوم صائما ؟ قال أبو بكر: أنا ، قال : فمن تبع منكم جنازة؟»، قال أبو بكر: أنا، قال: «فمن أطعـم مـنـكـم الـيـوم مسكينا ؟»، قال أبو بكر أنا. قال: «فمن عاد منكم مريضا؟»، قال أبو بكر: أنا، فقال رسول الله ﷺ: «ما اجتمعن في امرئ إلا دخل الجنة )

السابق التالى

مقالات مرتبطة بـ المتابعة بين الإفراط والتفريط

  • مفهوم المتابعة

    مجدي الهلال

    إن كان من مهام المربي حسن توجيه الأفراد وتعهدهم، ومتابعتهم فيما يتعلق بأحوالهم وجوانب حياتهم المختلفة، فإن هذا ليس

    26/06/2023 202
  • من الاثار الاخري ان اعمال صاحبه تفضل اعمال الاخرين

    الشيخ / خالد بن عثمان السبت

    إذ أنّ الأعمال تتفاضل بسبب الإخلاص ، فترجح في الموازين إذا كان الإخلاص فيها تاماً كاملاً وافياً ،يقول ابن القيم

    02/04/2018 1351
  • الإيمان هو الضامن

    مجدي الهلال

    فإن قلت: إن كانت المتابعة الدقيقة للأفراد لها هذه السلبيات، فما الضامن إذن الذي يضمن للمربي حسن تنفيذ الأفراد

    03/07/2023 184
معرفة الله | علم وعَملIt's a beautiful day