خطبة بعنوان: اسم الله القدوس
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله،
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)
[آل عمران:102]، [النساء:1]، [الأحزاب:70-71]،
أما بعد ،
عباد الله: فإنه ما من البشر ذكر ولا أنثى ولا صغير ولا كبير ولا شريف ولا حقير... إلا ويعتريه نقص أو عيب أو شينٌ في جسد أو خلق أو حال... وما منا من فرد إلا وقد ابتلي بالنجاسة يحملها في بطنه ثم يخرجها في الخلاء، وكلنا عرضة للموت والمرض والهرم والضجر.
هل في ابن آدم مثل الرأس مكرمـة *** وهو بـخمس من الأقذار مضروب
أنفٌ يـــســـيـل وأذن ريـحها سهك *** والعـين مرمصة والثــغر ملعوب
وهذا فرق عظيم بين الخالق والمخلوق؛ فإن الخالق -عز وجل- منزه عن كل نقص وعيب وشين وعن كل ما لا يليق بجلاله وكماله، لذا سمى -عز وجل- نفسه بـ القدوس.
عباد الله: ولاسم الله القدوس معنيان، أما الأول فهو من القدس وهو الطهر، وفي القرآن على لسان الملائكة قالوا:
(وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ)
[البقرة: 30]
فأصل التقديس التطهير؛ أي نطهِّرك عن النقائص وعن كل سوء، ونصفك بما يليق بعزك وجلالك من العلو والعظمة، وننسبك إلى ما هو من صفاتك، وننزهك عن الأدناس وعما أضاف إليك أهل الكفر مما يشين... وقيل معناه: نطهر أنفسنا لطاعتك وعبادتك (تفسيري الخازن وابن كثير)، ومنه الأرض المقدسة أي: المطهرة (تفسيري ابن كثير والقرطبي)، فالمقدس هو المطهَّر، ومنه وصف الله -تعالى- لجبريل بأنه:
(رُوحُ الْقُدُسِ)
[النحل: 102]
أما المعنى الثاني: فالقدس هو البركة، وعليه فالأرض المقدسة هي المباركة، وحمل على ذلك قوله -تعالى-:
(يَاقَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ)
[المائدة: 21]
وهي تلك الأرض التي وصفها الله في آية أخرى بقوله:
(وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ)
[الأنبياء: 71]
فوصفها بالبركة.
والخلاصة أن القدوس من أسماء الله -جل وعلا-، وأن معناه: المبارك الطاهر المطهَّر المنزَّه عن كل عيب ونقص وشين، المبرَّء من الند والشريك والصاحبة والولد والمثيل والشبيه والكفؤ والسميّ والمضاد، مع الإجلال والتعظيم، وهذا كله ما قرره الله -سبحانه وتعالى- في كتابه تقريرًا، فقال -عز من قائل-: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشورى: 11]، وقال: (وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ) [الإخلاص: 4]، وقال -سبحانه-: (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا) [مريم: 65]، وقال أيضًا: (أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ) [الأنعام: 101].
يقول ابن القيم في النونية:
هذا ومن أوصافه القدوس ذو التـ *** ــنـزيـه بالـتـعــظـيـم للرحمن
أيها المؤمنون: لقد ورد اسم الله القدوس في القرآن الكريم مرتين مقترنًا في كليهما باسم الله "الملك"، الأولى في سورة الحشر وهي قوله -تعالى-:
(هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ)
والثانية في سورة الجمعة وتقول: (يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ)
[الحشر:23]، [الجمعة: 1].
وفي السنة تخبرنا أم المؤمنين عائشة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يقول في ركوعه وسجوده: "سبوح قدوس، رب الملائكة والروح" (مسلم)، وعن أبي بن كعب أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يوتر بثلاث ركعات، كان يقرأ في الأولى بسبح اسم ربك الأعلى، وفي الثانية بقل يا أيها الكافرون، وفي الثالثة بقل هو الله أحد، ويقنت قبل الركوع، فإذا فرغ، قال عند فراغه: "سبحان الملك القدوس"، ثلاث مرات يطيل في آخرهن (النسائي).
أيها المسلمون: الآن وقد أدركنا معنى اسم الله -عز وجل- القدوس، وعلمنا ما يجب أن ننزه عنه القدوس إجمالًا، فتعالوا بنا نستعرض ذلك تفصيلًا من خلال النقاط التالية:
أولًا: تنزيهه -تعالى- عن الشركاء والأنداد والصاحبة والولد: قال -عز وجل-:
(وَقُلِ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَم يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُن لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذُّلَّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا)
[الإسراء:111]
ثانيًا: أن نثبت لله -تعالى- ما أثبته الله لنفسه من الأسماء والصفات: وهي مبثوثة في القرآن الكريم وفي السنة الصحيحة، وكلها للكمال والجمال والجلال، وشرط ذلك أن يكون من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل، وقد قال الله -تعالى-:
(وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)
[الأعراف: 180]
ثالثًا: أن ننزه الله -سبحانه وتعالى- عن النقص في أقداره وأفعاله وأقواله، كما ننزهه عنه في أسمائه وصفاته، فكل فعل وقدر من الله لحكمة بالغة لا عبثًا ولا لهوًا، فتعالى الله القائل:
(أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ)
[المؤمنون: 115-116]
وكل قول لله فهو الحق وهو الصدق قال -جلا وعلا-: (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا) [النساء: 87]، وقال: (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا) [النساء: 122]، وهو -تعالى- لا يظلم شيئًا، يقول -سبحانه-: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ) [النساء: 40]، وفي الحديث القدسي: " يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي" (مسلم)، وهو -تعالى- منزه عن البخل:
(وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ)
[المائدة: 64]
رابعًا: التقرب إلى الله والتضرع إليه باسمه القدوس: كما كان يصنع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في ركوعه وسجوده وفي صلاة وتره... وذلك استجابة لقول الله -سبحانه وتعالى-: (وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا) [الأعراف: 180].
خامسًا: إحسان الظن بالله -تعالى-: فكيف لنا وقد علمنا أن من أسماء الله القدوس أن نسيء فيه -عز وجل- الظن، وهو المنزه عن كل ما يظن الخلق من النقائص والعيوب والأخطاء، وقد تعلمنا من القرآن أن ظن السوء بالله من صفات المنافقين والمشركين، قال -عز من قائل-:
(وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ)
[الفتح:6]
سادسًا: تنزيهه -تعالى- عن الموت والنوم والمرض والاحتياج إلى غيره، وعن كل ما يعتري المخلوقات مما لا يليق بالخالق -سبحانه وتعالى-، فهو الحي الذي لا يموت، قالها الله -تعالى-: (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ) [الفرقان: 58]، ولا يغفل ولا ينام، قال -عز من قائل-: (لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ) [البقرة: 255]، وهو بالغ الغنى عمن سواه، قال -تعالى-: (سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ) [يونس: 68].
عباد الله: إن من الواجب علينا تجاه اسم الله القدوس أن نُقدِّس الله -تعالى- وننزِّهه بألسنتنا وأقوالنا بعد أن نزَّهناه -عز وجل- بقلوبنا وعقولنا، ولذلك عدة ألفاظ، منها ما يلي:
الأول: قولنا: "سبحان الله"، ولعله أعظمها وأدلها على تقديس الله -تعالى-، ومعناه: تنزه الله وتعالى الله وترفع الله وتسامى الله... يقول القرطبي في قول الله -تعالى-: (فَسُبْحَانَ اللَّهِ) [الأنبياء: 22]: "نزه نفسه، وأمر العباد أن ينزهوه" (تفسير القرطبي)، وقد اختص الله -تعالى- نفسه بهذه الكلمة، فلا يجوز ولا يصح أن تطلق على سواه -سبحانه وتعالى-.
وقد أمرنا القرآن الكريم مرارًا أن نسبح الله، فقال: (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) [الأعلى: 1]، وأمر بها نبيه محمدًا -صلى الله عليه وسلم- أن يذكره بها، قائلًا:
(قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ)
[يوسف: 108]
وما في الكون من شيء إلا وهو يسبح الله -تعالى-:
(تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ)
[الإسراء: 44]
كذلك فالله -عز وجل- يذكِّرنا بها عند كل نقيصة تُنسب -زورًا وكذبًا- إليه -سبحانه-، ومن ذلك قوله:
(وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ)
[الأنعام: 100]
اللفظ الثاني: قولنا: "الحمد لله"، ولا يجوز كذلك أن يقال لغير الله -سبحانه وتعالى-، فهو المستحق للحمد وحده دون سواه، ومعنى الحمد هو: الثناء الكامل، ولا بد أن يكون ذلك مقترنًا بالمحبة والتعظيم؛ فإن مجرد الوصف بالكمال دون محبة وتعظيم لا يسمى حمدًا وإنما يسمى مدحًا.
ويعظم الأجر ويجمل التنزيه والتقديس إذا ما جُمع التسبيح مع التحميد، وهذا ما كان يفعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كثيرًا ويحث عليه، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "من قال: سبحان الله وبحمده، في يوم مائة مرة، حطت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر" (متفق عليه)، وعنه -أيضًا- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: "سبحان الله العظيم، سبحان الله وبحمده" (متفق عليه)، وقد قصَّ الله -تعالى- قول أهل الجنة الذين جمعوا الثناءين معًا: (دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [يونس: 10].
اللفظ الثالث: قولنا: "تبارك"، ومعناه: تقدَّس وتنزَّه وتعالى وتعاظمت خيراته وبركاته، وقد أثنى الله -تعالى- على نفسه بهذا اللفظ في قرآنه تسع مرات، فقال -عز من قائل-: (تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) [الأعراف: 54]، ومنها قوله -تعالى-: (تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ) [الفرقان: 1]... ولا يجوز كذلك صرف هذه الكلمة إلا إلى الله -سبحانه وتعالى- وحده.
وما هذه الألفاظ الثلاثة إلا مجرد نماذج وأمثلة، وإلا فإنه لا يثني على الله ويقدسه حق تقديسه إلا الله -سبحانه وتعالى- نفسه، فقد روت عائشة -رضي الله عنها- أنها سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو يقول: "...لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك" (مسلم).
اللهم اجعلنا من الذاكرين لك المقدسين لذاتك، وارض عنا وطهرنا ونقنا يا حي يا قيوم يا سلام يا قدوس.
وصل اللهم وسلم على محمد...