الله الخالق الخلاق
الحمد لله الخالقِ القادرِ الغفار، خلقنا فأحسن صورنا، وجعل لنا السمع والأفئدة والأبصار
﴿ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ﴾ [إبراهيم: 34]
وأشهد إلا إله إلا الله وحده لا شريك له أرسى الجبال وأجرى الأنهار، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله المختار صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه الأخيار أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله
﴿ يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1]
إخوة الإسلام: يتفاوت الإيمان في القلوب، وما أهنأ العيش مع إيمان عالٍ يعلق روح الجسد الترابي بربها وخالقها، وما أحوجنا إلى ذكر يرقق القلوب ويزيد الإيمان ؛ فيدحر سلطان الشيطان، وحديثنا اليوم عن خالقنا سبحانه وبحمده.. عن اسم الله الخالق، وقد ذكر أهل العلم قاعدة في أسماء الله فقالوا: " كل اسم لله عز وجل يستلزم صفة " وصفة هذا الاسم قد أقر بها حتى المشركين، كما قال سبحانه
﴿ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ ﴾ [الزخرف: 87]
﴿ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ ﴾ [العنكبوت: 61]
قال الخطابي رحمه الله: " الخالق هو المبدع للخلق المخترع له على غير مثال سابق " اهـ.
أيه الأحبة: ورد اسم الخالق مفردا في القرآن الكريم ثمان مرات
﴿ هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ ﴾ [الحشر: 24]
وكما في قوله ﴿ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ﴾ [الرعد: 16]
وجاء اسم الخلاّق في القرآن الكريم مرتين
﴿ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ ﴾ [الحجر: 86]
وفي اقتران اسم الخلاّق بالعليم إشارة إلى أن خلقه للأشياء إنما هو عن علم بما يخلق، ومتى يخلق ويعلم الحكمة من خلقه فهو سبحانه لم يخلق شيئا عبثا
﴿ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ ﴾ [الدخان: 38]
﴿ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ ﴾ [المؤمنون: 115]
والخلاّق من أفعال المبالغة تدل على كثرة خلق الله تعالى، فتأمل كم يحصل في الثانية الواحدة من بلايين المخلوقات
﴿ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ﴾ [المؤمنون: 14]
إن الطبيعة وما فيها من أصناف المخلوقات تسبح بحمد الله جل جلاله
﴿ تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ﴾ [الإسراء: 44]
كل ما في الكون خلقه وهو شاهد على ربوبيته وألوهيته عز شأنه
﴿ هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾ [لقمان: 11]
وإليكم بعض ما نطقت به الاكتشافات في هذا العصر:
ما بين ( 500 - 600) مليون حيوان منوي تمر عبر المهبل، وكل واحد من هذه الحيوانات قابل لأن يكون إنسانا بإذن الله عز وجل، ولكن الله سبحانه وتعالى بقدرته وحكمته يختار واحد من هذه الملايين يقوم بتلقيح البويضة؛ ليكون هذا الإنسان السوي المختار.. الناطق العاقل.. المتصرف في شؤونه بإذن ربه.
هكذا خُلقنا فلنتواضع لعظمة الله عز وجل وكبريائه! ولنتذكر البداية التي كنا منها؛ لندرك الفرق الهائل بين هذه النطفة وهذا الإنسان السوي.
في جسد الإنسان أكثر من مائة تريليون خلية، وداخل كل خلية من هذه الخلايا أجهزة وأعمال ونوى وبرامج وخرائط ومعلومات، كلها تسبح ربها جل وعز وتؤدي دورها على أحسن وأفضل ما يكون.
في كل خلية (31) مليار حرف من الحمض الوراثي النووي؛ الذي هو ذو حروف أربعة وهو عبارة عن مادة وراثية موجودة في نواة البويضة ومسؤولة عن جميع وظائف الجسم الحيوية المختلفة.
وهذه الأعداد الهائلة من الحروف النووية الحمضية، وهذه الكميات الهائلة من الذرات والخلايا الموجودة في جسدك كلها ناطقة ومعترفة بعظمة الله سبحانه وتعالى وأنه الخلاّق.
ارفع رأسك إلى السماء حين يمسيك الليل ففوق رأسك ثمّة مليارات المجرات والمجرّة عبارة عن تجمّع من النجوم المختلفة الواسعة الكثيرة الهائلة والمسافات في النجوم والمجرات لا يقدرها المختصون بالكيلو متر وإنما بسرعة الضوء! والضوء يقطع في الثانية الواحدة 300 ألف كيلو متر ويقطع الضوء في ساعة واحدة قرابة مليار كيلو متر!!
والمجرات خلق عظيم جدا حتى قال المختصون لو افتُرِض أن مركبة تسير بسرعة الضوء لاحتاجت إلى عدة آلاف من السنوات حتى تجتاز مجرة واحدة من هذه المجرات، فما بالك بما وراءها قال الحق سبحانه
﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لَا تُبْصِرُونَ ﴾ [الحاقة: 38، 39]
وقال جل جلاله ﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ ﴾ [الواقعة: 75، 76]
إن الإنسان قد يكبر في عين نفسه لكنه لو نظر إلى هذه المخلوقات الهائلة الضخمة العظيمة؛ لأورثه ذلك تواضعا وذُلاً وانكساراً لربنا تبارك وتعالى وتعظيماً وإجلالاً وخوفاً وتوكلاً..
إن هذه المجرات التي نتحدث عنها تضم المجرة منها ما بين مائة بليون إلى ألف بليون نجم!! ولا يزال العلم يكتشف كل يوم الجديد في هذا الفضاء مع أن وسائل الكشف لا زالت عاجزة قاصرة عن إدراك ما وراء ذلك كله.
إن روعة هذا الكون وجماله وعظمته قبسة من إبداع الخالق العظيم سبحانه.
الحمد لله...
أما بعد: فإن التفكر في خلق الله سبحانه وملكوته يقود إلى إيمان راسخ بالله الخلاق سبحانه
﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ﴾ [آل عمران: 190]
والاعتراف بأن الله هو الخالق إيمان بربوبيته فالله هو الخالق المدبر المتصرف ولا بد من صرف العبادة للخالق سبحانه أما إن صُرفت لغير الله فهو شرك أكبر
﴿ يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 21]
والإيمان بأن الله هو الخالق المنعم المتصرف يقود العبد إلى محبة خالقه والتسليم لأمره والانصياع لشرعه والوقوف عند حدوده ولذا قال سبحانه
﴿ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الأعراف: 54]
فالذي له الخلق له الأمر وهو الشرع.
إخوة الإيمان: والإيمان باسم الله الخالق له آثار إيمانية على العبد:
أولا: الإيمان بالخالق سبحانه يستلزم الإيمان بوحدانية الله وألوهيته وإفراده بالعبادة.
ومن آثار باسم الله الخالق: المحبة الكاملة لربنا سبحانه فهو خالقنا والمنعم بنعم نعرف قليلا منها ونجهل كثيرا. وثالثا: الإيمان باسم الله الخالق يدل على صفات أخرى لله سبحانه كالحياة والقدرة والعلم والإرادة وغيرها. ومن الآثار: الإيمان باسمه الخالق يستلزم الإيمان بحكمته سبحانه في هذا الخلق
﴿ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ ﴾ [المؤمنون: 115]
ومن الآثار الإيمانية أيضا: أن الإيمان باسمه الخالق يستلزم قبول شرعه وتعظيم أمره والعمل به والتحاكم إليه وعدم الرضا بغيره بديلا لأنه الشرع الصادر عن الخالق العليم الحكيم سبحانه
﴿ أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ﴾ [الملك: 14]
ومن الآثار: الإيمان باسمه الخالق يقتضي الإقرار بعلم الخالق سبحانه بجزئيات خلقه صغيرها وكبيرها
﴿ وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ﴾ [الملك: 13، 14]
ومن الآثار الإيمانية: تعظيم الله عز وجل وإجلاله وذلك عند معاينة مخلوقاته العظيمة في الآفاق وفي الأنفس ؛ لأن عظمة هذه المخلوقات ودقتها وانتظامها يدل على عظمة خالقها
﴿ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ ﴾ [النمل: 88]
===========================================
وبعدُ عباد الله، صلوا وسلموا... [1]
[1] ملحوظة: مجمل ما في هذه الخطبة مقتبس من شرح اسم الله الخالق في كتاب: مع الله د. العودة، وكتاب ولله الأسماء الحسنى للشيخ الجليِّل.