عشرةُ وسائل لتعظيم الله
لا شكَّ أن تعظيمَ اللهِ ﷻ من أجلِ العباداتِ القلبيةِ التي تَظْهَرُ آثارُها على الجوارحِ من خلالِ المسارعةِ إلى كلِّ ما يُحِبُّهُ اللهُ ويرضَاهُ منَ الأقوالِ والأفعالِ الظاهرةِ والباطنةِ. فلولا وجودُ نوعِ تعظيمٍ للهِ ﷻ في القلبِ لما صبرَ الناسُ على طاعةِ اللهِ، وعن معصيةِ اللهِ، وعلى أقدارِ اللهِ المؤلمةِ.
وعلى قَدْرِ تعظيمِ اللهِ تعالى في القلبِ يكونُ إحسانُ العبادةِ وإتمامُها وإكمالُها وإتقانُها.
وهناك وسائل كثيرة لتعظيمِ اللهِ تعالى منها:
1- إفرادُ اللهِ سبحانَه بالوحدانيةِ: فيشهد العبدُ انفرادَ اللهِ تعالى بالخلقِ والحُكْمِ، وأن ما شاء كان وما لم يشأْ لم يكنْ، وأنه لا تتحركُ ذرةٌ إلا بإذنِه، وأنَّ الخلقَ مقهورونَ تحتَ قبضَتِهِ، وأنه ما من قلبٍ إلا وهو بين أصبعينِ من أصابِعِهِ، إنْ شاءَ اللهُ أن يُقِيمَهُ أقَامَهُ، وإنْ شاءَ أن يُزِيغَهُ أزَاغَهُ، فالقلوبُ بيدِهِ، وهو مُقَلِّبُهَا ومُصَرِّفُهَا كيفَ شاءَ وكيفَ أرادَ، وأنَّه هو الذي آتَى نفوسَ المؤمنينَ تَقْوَاهَا، وهو الذي هَداهَا وزكَّاهَا، وأَلْهَمَ نُفوسَ الفُجَّارِ فُجُورَهَا وَأَشْقَاهَا، من يهدِ اللهَ فلا مُضِلَّ له، ومن يُضْلِلْ فلا هَادِيَ له، يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ بفضْلِهِ ورحمَتِهِ، ويُضِلُّ من يشاءُ بعدلِهِ وحِكْمَتِهِ
﴿لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ﴾
[الأنبياء:23]
فإذا شاهدَ العبدُ ذلك، واستقرَّ في قلبِهِ إفرادُ اللهِ تعالى بالوحدانيةِ، فأوْرَثَه ذلك ـ ولا بدَّ ـ تعظيمَ اللهِ ﷻ، وانتقلَ من توحيدِ الربوبيةِ إلى توحيدِ الألوهيةِ، فاتخذ اللهَ وحدَه إلهًا ومعبودًا، وأحبَّ ما يحبُّه الله، وأبغضَ ما يبغضُه اللهُ، وأعطى للهِ، ومنع للهِ، ووالى في اللهِ، وعادى في اللهِ، فهذا التوحيدُ هو الذي من أجلِهِ أُرْسِلَتِ الرُّسلُ، وأُنْزِلَتِ الكتبُ، وخُلِقَ الخلقُ، وقَامَتْ سوقُ الجهادِ على ساقٍ. قال ابنُ القيمِ رحمه الله في منزلةِ التعظيمِ: «هذه المنزلةُ تابعةٌ للمعرفةِ، فعلى قَدْرِ المعرفةِ يكونُ تعظيمُ الربِّ تعالى في القلبِ، وأعرفُ الناسِ به، أشدُّهم له تعظيمًا وإجلالًا، وقد ذمَّ اللهُ تعالى من لم يُعَظِّمْه حقَّ عظمتِه، ولا عرفَه حقَّ معرفتِه، ولا وَصَفَهُ حقَّ صِفَتِه، فقال:
﴿مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا﴾
[نوح:13]
قال ابنُ عباسٍ ومجاهدٌ: «لا ترجُونَ للهِ عظمةً». وقال سعيدُ بنُ جبيرٍ: «ما لكم لا تعظِّمُونَ اللهَ حقَّ عظمَتِه»
2- تدبُّر معاني أسماءِ اللهِ تعالى وصفاتِه: فأسماءُ اللهِ تعالى كلُّهَا حُسْنَى، وكلُّها تدلُّ على الكمالِ المطلقِ، والحمدِ المطلقِ، وكلُّهَا مشتقةٌ من أوصَافِها، فتدبرُ معاني هذه الأسماءِ وما تُوجِبُهُ من آثارٍ من وسائلِ تعظيمِ اللهِ ﷻ قال تعالى:
﴿وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾
[الأعراف:180]،
وقد ثبتَ في الصحيحينِ
من حديثِ أبي هريرةَ رضي الله عنه، عن النبيِّ ﷺ أنَّه قالَ:
«إنَّ للهِ تسعةً وتسعينَ اسمًا، مائةً إلا واحدًا، من أَحْصَاهَا دخلَ الجنةَ»
أي من حَفِظَها وفهمَ معانِيها ومدلولَها، وأثْنَى على اللهِ بها، وسأَلَهُ بها، واعْتَقَدَها دخلَ الجنةَ، والجنةُ لا يدخُلُها إلا المؤمنونَ، فعُلِمَ أنَّ ذلك أعظمُ ينبوعٍ ومادةٍ لحصولِ الإيمانِ وقوتِهِ وثباتِهِ
3- تدبر القرآن: قال تعالى:
﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللهِ﴾
[الزمر:23]،
وقد قال الله تعالى في وصفِ كتابِه:
﴿لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآَنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللهِ﴾
[الحشر:21]،
فإذا كانَ هذا تأثيرُ القرآنِ على الجبالِ، فكيفَ يكونُ تأثيرُه على قلبِ المؤمنِ؟ قال جعفرُ: «سمعتُ مالكَ بن دينارٍ قرأَ: ﴿لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآَنَ عَلَى جَبَلٍ...﴾ الآية، ثم قالَ: أقسمُ لكم لا يؤمنُ عبدٌ بهذا القرآنِ إلا صُدِعَ قلبُه»
﴿الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ﴾
[الهمزة:7]،
قال: تأكلُه إلى فؤادِه وهو حيٌّ، ثم بكَى وأبكَى من حَوْلَه
4- التفكرُ في آلاءِ اللهِ وعظيمِ نعمِه:
﴿فَاذْكُرُوا آَلَاءَ اللهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾
[الأعراف:69]،
وهذا أيضًا من أعظمِ وسائلِ تعظيمِ اللهِ تعالى، وقدْ ربطَ القرآنُ بين هذا التأملِ وبين تعظيمِ اللهِ تعالى فقال:
﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾
[آل عمران:190-191].
وقد ذكر ابنُ القيمِ رحمه الله أن الربَّ تعالى يدعو عبادَه في القرآنِ إلى معرفَتِه من طريقينِ:
أحدهما: النظرُ في مفعولاتِه.
والثاني: التفكرُ في آياتِه وتدبرُها
وقال رحمه الله: والنظرُ في هذه الآياتِ وأمثالِها نوعانِ: نظرٌ إليها بالبصرِ الظاهرِ، فَيَرى ـ مثلًا ـ زُرقةَ السماءِ ونجومَها وعلوَّها وسَعَتَها، وهذا نظرٌ يشاركُ الإنسانُ فيه غيرَه من الحيواناتِ، وليسَ هو المقصودُ بالأمرِ.
6- تعظيمُ شعائرِ اللهِ وحرماتِه:
فإذا عظَّمَ العبدُ ما عظَّمَه اللهُ تبارك وتعالى، امْتَلَأَ قلبُه بالتعظيمِ لله والخشيةِ منه، كما قال تعالى:
﴿ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾
[الحج:32]،
وكانَ من شدةِ تعظيمِ السلفِ لله ﷻ، أنَّهم كانوا يبكُونَ إذا خُولِفَ أمرُ اللهِ سبحانه وتعالى من غيرِهم، فعن ربيعِ بن عتابٍ قال: كنتُ أمشِي مع زيادِ بن جريرٍ، فسَمِعَ رَجُلًا يحلِفُ بالأمانَةِ. قال: فنظرتُ إليه وهو يبكِي قلت: ما يبكِيكَ؟ فقال: أما سَمِعْتَ هذا يحلفُ بالأمانةِ؟ فَلَئَنْ تُحَكُّ أحشَائِي حتى تُدْمَى أَحَبُّ إليَّ مِنْ أَنْ أَحْلِفَ بالأمانةِ.
وكان عمرُ بنُ ذرٍّ يقولُ: آنَسكَ جانبُ حِلْمِهِ فتوثَّبْتَ على معاصِيه! أَفَأَسَفَه تريدُ؟ أما سمعتَه يقولُ:
﴿فَلَمَّا آَسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ﴾
[الزخرف:55].
أيُّها الناسُ: أَجِلّوا مقامَ اللهِ بالتنزُّهِ عما لا يحلُّ، فإنَّ اللهَ لا يؤمنُ إذا عُصِي
7- التأملُ في سننِ اللهِ ﷻ:
ومن وسائلِ تعظيمِ الله ﷻ: التأملُ في سننِه التي لا تتبدلُ ولا تتغيرُ ومن هذهِ السننِ:
سُنَّةُ الدفْعِ:
﴿فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ﴾
[البقرة:251].
وسُنَّةُ التداولِ:
﴿إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾
[آل عمران:140].
وسنةُ الابتلاءِ:
﴿الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾
[العنكبوت:1-3].
وسنةُ التغييرِ:
﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ﴾
[الرعد:11].
وسنةُ نصرِ المؤمنينَ إذا حَقَّقُوا الشرطَ:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾
[محمد:7]،
وغير ذلك من السنن.
فلا شكَّ أنَّ التأملَ في هذهِ السننِ وغيرِها مما يورثُ تعظيمَ اللهِ في القلوبِ، لأنه يؤدِّي إلى حقيقةٍ مفادُها أنَّ لهذا الكونِ إلهًا عظيمًا قادرًا، له مقاليدُ كلِّ شيءٍ، ولا يُعْجِزُهُ شيءٌ في الأرضِ ولا في السماءِ، غيرَ أنه قد سَيَّرَ هذا الكونَ بما فيه وَفْقَ نظامٍ مُحكمٍ وقوانينَ ثابتةٍ لا تتبدلُ ولا تتغيرُ.
8- معرفةُ بعضِ جوانبِ الإعجازِ العلميِّ في القرآنِ والسنةِ: ومثالُ ذلكَ قولُ اللهِ تعالى:
﴿وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ﴾
[الطارق:12]،
قال الدكتور زغلولٌ النجارُ: «من الآياتِ الوصفيةِ المبهرةِ قولُ الحقِّ تبارك وتعالى في سورةِ الطارقِ:
﴿وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ﴾
فهذا قسمٌ عظيمٌ لحقيقةٍ كونيةٍ مبهرةٍ لم يُدْرِكْها العلماءُ إلَّا في النِّصفِ الأخيرِ من القرنِ العشرينَ.
فالأرضُ التي نَحْيَا عليها لها غلافٌ صَخْرِيٌّ خارجيٌّ، هذا الغلافُ مُمَزَّقٌ بشبكةٍ هائلةٍ من الصُّدوعِ، تمتدُّ لمئاتِ الآلافِ من الكيلومتراتِ طولًا وعرضًا، بعمقٍ يتراوحُ ما بين 65 كيلومترًا و150 كيلومترًا في كلِّ الاتجاهات.
ومن الغريبِ أن هذه الصدوعَ مرتبطةٌ ببعضِها البعضِ ارتباطًا يجعلُها كأنَّها صدعٌ واحدٌ، يُشَبِّهُهُ العلماءُ باللِّحامِ على كرةِ التنسِ. وانطلاقًا من ذلك يُقْسِمُ اللهُ تعالى بهذه الحقيقةِ الكونيةِ المبهرةِ، التي لم يَسْتَطِعْ العلماءُ أن يدركُوا أبعادَها إلا بعدَ الحربِ العالميَّةِ الثانِيَةِ، واستمرتْ دراستُهم لها لأكثر من عشرينَ سنةً متصلةً من 1945م- 1965م حتى استطاعُوا أن يرسمُوا هذه الصدوعَ بالكاملِ، والقرآنُ الكريمُ كانَ قد سبقَ إدراكَهم بأكثرِ من ألفٍ وأربعمائةٍ من السنينَ بقولِ الحقِّ تبارك وتعالى:
﴿وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ﴾»
9- التأملُ في دلائلِ الحكمةِ الإلهيةِ: فهو سبحانه وتعالى الحكيمُ الذي بَهَرَتْ حكمتُه الألبابَ، وهو سبحانه لم يخلُقْ شيئًا عبثًا ولا سدىً، وله الحكمةُ البالغةُ في كلِّ ما قدَّرَهُ وقَضَاهُ من خيرٍ وشرٍّ وطاعةٍ ومعصيةٍ، وحِكَمُهُ سبحانه باهرةٌ تَعْجَزُ العقولُ عن الإحاطةِ بكُنْهها، وتَكِلُّ الألسنُ عن التعبيرِ عنها.
ولله فــي كل تحــريكة وتسكينة أبداً شاهد
وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد
من وسائلِ تعظيمِ اللهِ ﷻ: «محاسبةُ النفسِ» وذلكَ لأنَّ من أركانِ المحاسبةِ المقايسةِ بينَ ما كانَ من اللهِ من نعمٍ وإمهالٍ وسِتْرٍ وإفضالٍ وما من العبدِ من غفلةٍ وجهلٍ ومعصيةٍ. قال ابنُ القيمِ: «وبهذه المقايسةِ تعلمُ أن الربَّ ربٌّ والعبدَ عبدٌ، ويتبينُ لك حقيقةُ النفسِ وصفاتِها، وعظمةُ جلالِ الربوبيةِ، وتفرُّدُ الربِّ بالكمالِ والإفضالِ، وأنَّ كلَّ نعمةٍ منه فضلٌ، وكلَّ نقمةٍ منه عدلٌ، وأنتَ قبلَ هذه المقايسةِ جاهلٌ بحقيقةِ نفسِكَ، وبربوبيةِ فاطِرِها وخالِقِها...»