تعظيمُ النبيِّ ﷺ لربِّه


أحمد بن عثمان المزيد

إذا كان التعظيمُ ثمرةً من ثمراتِ المعرفةِ فقد كان النبيُّ ﷺ أعرفَ الخلقِ بربِّه، وكيفَ لا يكونُ كذلكَ وهو الذي اصطفَاهُ ربُّه وعلَّمَه  

﴿وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا﴾  

[النساء:113]،

ومنْ تدبَّرَ في عبادةِ النبيِّ ﷺ وذكرِهِ ودعائِه ولجوئِه إلى ربِّه عَلِمَ أنَّهُ أعظَمُ من عَظَّمَ الله تعالى، فقدْ كان ﷺ يقومُ من الليلِ حتى تتفطَّرَ قدماه، فقالتْ له عائشة رضي الله عنها: تفعلُ ذلك وقد غُفِرَ لك ما تقدمَ من ذنبِك وما تأخرَ!! فقال ﷺ: 

«أفلا أحبُّ أن أكون عبدًا شكورًا»

ومن تعظيمِ النبيِّ ﷺ لربِّه أنه كان يسدُّ جميعَ الأبوابِ التي تُفضِي إلى الغلوِّ فيه وإخراجِه عن حدودِ العبوديةِ والرسالةِ التي أَنْزَلَهُ اللهُ تعالى إيَّاها، فكان ﷺ يقولُ: 

«لا تُطْروني كما أطرتِ النصارى ابنَ مريمَ، إنما أنا عبدُه، فقولوا: عبدُ اللهِ ورسولُه»

وعن محمدِ بن جبيرِ بن مطعِمٍ عن أبيه قال: أتى رسولَ اللهِ ﷺ أعرابيٌّ فقال: يا رسولَ الله! جَهِدت الأنفسُ، وضاعتِ العيالُ، ونُهكتِ الأموالُ، وهلكتِ الأنعامُ، فاستسِقِ اللهَ لنا، فإنا نستشفِعُ بكَ على اللهِ، ونستشْفِعُ باللهِ عليكَ. فقال رسولُ الله ﷺ: 

«ويحك! أتدري ما تقولُ؟»

وسبَّحَ رسولُ اللهِ ﷺ، فما زالَ يسبِّحُ حتى عُرِفَ ذلك في وجوهِ أصحابِه، ثم قال: 

«إنَّه لا يُسْتَشْفَعُ باللهِ على أحدٍ من خَلْقِه، شأن اللهِ أعظمُ من ذلك»

وعن ابن عباسٍ قال: قال رجلٌ للنبيِّ ﷺ: ما شاءُ اللهُ وشئتَ، فقال ﷺ: 

«أَجَعَلْتَنِي للهِ ندًّا؛ لا بل ما شاءَ اللهُ وحدَهُ»

وعن عبدِ اللهِ بن الشخيرِ قال: انطلقتُ في وفدِ بني عامرٍٍ إلى رسولِ اللهِ ﷺ فقلنا: أنت سيدُنا. فقال: «السيدُ اللهُ» فقلنا: وأفضلُنَا فضلًا وأعظمُنَا طَوْلًا. فقال ﷺ: 

«قولوا بقولِكم أو بعضِ قولِكم، ولا يَسْتَجْرِيَنَّكُم الشيطانُ»

قال في (النهاية): «أي لا يَسْتَغْلِبَنَّكُم فيتخِذُكم جَريًّا، أي رسولًا ووكيلًا، وذلك أنهم كانوا مَدَحُوه، فَكَرِهَ لهمُ المبالغةَ في المدحِ، فنهاهم عنه»
وقولُه ﷺ: «السيدُ اللهُ» أي السؤددُ على الحقيقةِ إنما هو للهِ ﷻ، لأنه المتصفُ بذلك على الإطلاقِ فهو الذي الخلقُ خلقُه، والملكُ ملكُه، وهو المتفضلُ بكلِّ النِّعَمِ، وهو المتصرفُ في الخلقِ كيفَ شاءَ، وهو صاحبُ السؤددِ على الحقيقةِ، وأما غيرُه ممن حصَّل سؤددًا فإنما هو سؤددٌ ناقصٌ وغيرُ كاملٍ، ولهذا فإن النبيَّ ﷺ أخبر عن نفسِه بأنه سيدُ ولدِ آدمَ ﷺ، وهو سيدُهم في الدنيا والآخرةِ ـ صلواتُ اللهِ وسلامِه وبركاتِه عليه ـ، ولكنَّ السؤددَ الذي يليقُ بالإنسانِ، للرسولِ ﷺ منه الحظُّ الأكبرُ والنصيبُ الأوفرُ، وأما السؤددُ الكاملُ على الحقيقةِ فهو للهِ ﷻ... فالرسولُ ﷺ لحمايَتِه جنابَ التوحيدِ، ولحرصِه على ألا يحصلَ غلوٌّ يُؤَدِّي إلى محذورٍ أرشدَ ـ عليه الصلاةُ والسلامُ وبيَّنَ أن السيدَ هو اللهُ وأن السؤددَ الحقيقيَّ إنما هو للهِ

وكان النبيُّ ﷺ يعظمُ اللهَ تعالى من خلالِ تدبرِ آياتِ القرآنِ، وكان ﷺ يخشى من نزولِ العذابِ على هذه الأمةِ ففي صحيحِ البخاريِّ من حديثِ جابرِ بن عبدِ اللهِ قالَ: لمَّا نزلت هذه الآية: 

﴿قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ﴾ 

قال رسولُ اللهِ ﷺ: 

«أعوذ بوجهِك». 

قال: 

﴿أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ﴾ 

قالَ النبيُّ ﷺ: 

«أعوذُ بوجهِكَ» 

قال: 

﴿أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ﴾ 

قالَ رسولُ اللهِ ﷺ: 

«هذا أهونُ أو هذا أيسرُ»

وكان ﷺ إذا رأى غيمًا عُرِفَ في وجْهِه، قالت عائشةُ: يا رسولَ اللهِ! الناسُ إذا رأوُا الغيمَ فَرِحُوا، رجاءَ أن يكونَ فيه المطرُ، وأَراكَ إذا رأيتَ غَيْمًا عُرِفَ في وجْهِكَ الكراهَيَةُ! فقال: 

«يا عائشةُ! وما يُؤَمِّنني أن يكونَ فيه عذابٌ؟ قد عُذِّبَ قومٌ بالريحِ، وقد رأى قومٌ العذابَ فقالوا: ﴿هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا﴾

[الأحقاف:24]»

وكان ﷺ من تعظيمِه لربِّه يتأثرُ بالآياتِ التي يخوفُ اللهُ بها عبادَه فعن عبدِ الله بن عمرِو قال: انكسَفَتِ الشمسُ يومًا على عهدِ رسولِ اللهِ ﷺ، فقامَ رسولُ اللهِ ﷺ يصلِّي، فلم يَكَدْ أن يسجُدَ ثم سَجَدَ، فلم يكد أن يَرْفَعَ رأسَهُ، فجعلَ ينفُخُ ويبكِي ويقولُ: 

«ربِّ ألم تَعِدْني ألا تعذِّبَهم وأنا فيهم؟ ربِّ ألم تَعِدْني ألا تعذِّبَهم وهم يستغفرون؟ ونحن نستغفِرُك»، 

فلما صلَّى ركعتينِ انجلَت الشمسُ، فقامَ فحمِدَ اللهَ تعالى وأثنَى عليه ثم قال: 

«إنَّ الشمسَ والقمرَ آيتانِ من آياتِ اللهِ، لا ينكسِفَانِ لموتِ أحدٍ ولا لحياتِه، فإذا انكسَفَا، فَافْزَعُوا إلى ذكرِ اللهِ»

وقد ذكرْنَا شيئًا من تعظيمِ النبيِّ ﷺ لربِّه في أمهاتِ العبادةِ كالصلاةِ والحجِّ وذكرِ الله تعالى.


السابق التالى

مقالات مرتبطة بـ تعظيمُ النبيِّ ﷺ لربِّه

  • تعظيمُ الأمرِ والنهيِ

    أحمد بن عثمان المزيد

    وهذا يدلُّ على أن أولَ مراتبِ التعظيمِ هي تعظيمُ الأمرِ والنهيِ، وقد ذكر ذلك ابنُ القيمِ فقال: «تعظيمُ الأمرِ

    17/11/2021 1457
  • ثمرات الاستغفار و آثاره (7)

    عزيز بن فرحان العنزي

    (10) في الاستغفار أمان من النار و دخول الجنة بإذن الله تعالى : فعن شداد بن أوس – رضي الله عنه – قال: قال رسول

    05/01/2018 2761
  • تعظيمُ الله تعالى من خلالِ أسمائِه وصفاتِه

    أحمد بن عثمان المزيد

    لا شكَّ أنَّ من أعظمِ أسبابِ تعظيمِ الله سبحانه وتعالى: تدبُّرُ معانِي أسمائِهِ الحسْنَى وما تدلُّ عليه من صفاتٍ

    28/11/2021 1267
معرفة الله | علم وعَملIt's a beautiful day