أدق الحساب
قال الله تعالى:
{فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُۥ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍۢ شَرًّا يَرَهُۥ}
[لزلزلة: 7 - 8]
وهكذا فـ"الذرة" هي وحدة القياس الذي سيجري به الحساب يوم القيامة، وكان المفسرون القدامى يقولون: إنها الهباءة التي ترى في ضوء الشمس عندما يدخل الغرفة عبر نافذتها.. كان ذلك أصغر ما يتصورون من لفظ الذرة.
ونعلم اليوم أن الذرة شيء محدد يحمل هذا الاسم، وأنه أصغر بكثير من تلك الهباءة التي ترى في ضوء الشمس، فالهباءة ترى بالعين المجردة، أما الذرة فلا ترى أبداً حتى بأعظم المجاهر بالمعامل، إنما هي "رؤيا" في ضمير العلماء، لم يسبق لواحد منهم أن رآها بعينه ولا بمجهره، وكل ما رآه هو آثارها.
فهذه "الذرة" في ثقلها، من خير أو شر، ستحضر يوم القيامة ويراها صاحبها ويجد جزاءها.
فينبغي أن لا يحقر الإنسان شيئاً من عمله، خيراً كان أو شراً، ولا يقول هذه صغيرة لا حساب لها ولا وزن، والمسلم يرتعش وجدانه أمام كل عمل من أعماله ارتعاشة ذلك الميزان الدقيق الذي ترجح به الذرة أو تشيل.
إن هذا الميزان لم يوجد له نظير أو شبيه بعدً في الأرض.. إلا في قلب المؤمن.
تلك هي "الذرة" التي سيكون الحساب يوم القيامة بموجبها.
وقد فهم الصحابة رضي الله عنهم مقياس هذه الوحدة، وعاملوا أنفسهم على أساسها.
جاء في مسند الإمام أحمد عن صعصعة بن معاوية - عم الفرزدق - أنه أتي النبي صلى الله عليه وسلم فقرأ عليه:
{فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُۥ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍۢ شَرًّا يَرَهُۥ} قال: حسبي، لا أبالي أن لا أسمع غيرها.
لقد كانت هذه الآية الكريمة لدى هذا الصحابي الكريم كافية ليتخذها ميزاناً طول حياته الدنيا يزن بها أعماله.
وجاء في "الموطأ" للإمام مالك، عن عائشة رضي الله عنها، أن مسكيناً وقف على بابها، وبين يديها عنب، فقالت لإنسان كان عندها: خذ حبة فأعطه إياها، فجعل ينظر إليها، ويعجب من قولها، فقالت عائشة: أتعجب من قولي؟ فكم ترى في هذه الحبة من مثقال ذرة.
وفي صحيح البخاري قوله صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم
(اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ)
وفي المسند وعند ابن ماجه والدارمي: عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(يَا عَائِشَة إِيَّاكِ وَمُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ فَإِنَّ لَهَا مِنْ اللَّهِ طَالِبًا)
إن أعمال الإنسان محصاة عليه صغيرها وكبيرها، خيرها وشرها، في كتاب
{لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّآ أَحْصَٰهَا ۚ وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا ۗ وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا}
[الكهف: 49]
إن الرسالة التي تحملها هذه الآية تقتضي من المسلم الحريص على نجاة نفسه - يوم لا يشفع مال ولا بنون - أن يراقب نفسه فيما يصدر عنه من خير وشر، أما الخير فليحمد الله عليه، وأما الشر فليتبع السيئة الحسنة تمحها، وليأت الله بقلب سليم.