العلم الشامل
قال الله تعالى:
{وَعِندَهُۥ مَفَاتِحُ ٱلْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَآ إِلَّا هُوَ ۚ وَيَعْلَمُ مَا فِى ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ ۚ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍۢ فِى ظُلُمَٰتِ ٱلْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍۢ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِى كِتَٰبٍۢ مُّبِينٍۢ} [الأنعام: 59]
إني وأنا العبد الصغير الضعيف، أول ما يشد انتباهي مما ذكر في الآية الكريمة، تلك الورقة وهي تسقط من شجرتها، فهذا المشهد مألوف لي ولأمثالي، ولكن الشجرة الواحدة قد تسقط منها أوراق في أوقات متقاربة أو متباعدة، ولكن الأمر ليس أمر شجرة في بستان، ولا شجر بستان في قرية أو مدينة.. إنها أوراق كل شجرة على ظهر هذه الأرض كلها.. إنه سبحانه وتعالى يعلم كل ورقة منها في زمان سقوطها ومكان استقرارها بعد سقوطها.. إنه علم الله تعالى.
إن في الآية الكريمة: "صورة لعلم الله الشامل المحيط، الذي لا يند عنه شيء في الزمان ولا في المكان، في الأرض ولا في السماء، في البر ولا في البحر، في جوف الأرض ولا في طباق الجو، من حي وميت ويابس ورطب..
إن الخيال البشري لينطلق وراء النص القصير يرتاد آفاق المعلوم والمجهول، وعالم الغيب وعالم الغيب وعالم الشهود وهو يتبع ظلال علم الله في أرجاء الكون الفسيح، ووراء حدود هذا الكون المشهود، وإن الوجدان ليرتعش وهو يستقبل الصور والمشاهد من كل فج وواد.
ويجول الفكر في مجاهل البر وفي غيابات البحر، المكشوفة كلها لعلم الله، ويتبع الأوراق الساقطة من أشجار الأرض لا يحصيها عد، وعين الله على كل ورقة تسقط، هنا وهنا وهناك، ويلحظ كل حبة مخبوءة في ظلمات الأرض لا تغيب عن عين الله، ويرقب كل رطب وكل يابس في هذا الكون العريض، لا يند منه شيء عن علم الله المحيط.
إنها جولة تدير الرؤوس، وتذهل العقول، جولة في أماد من الزمان، آفاق من المكان.. يعيا بتصور آمادها الخيال وهي تُرسم هكذا دقيقة كاملة شاملة في بضع كلمات.
ألا إنه الإعجاز.
وننظر إلى هذه الآية القصيرة من أي جانب فنرى هذا الإعجاز، الناطق بمصدر هذا القرآن.
ننظر إليها من ناحية موضوعها، فنجزم للوهلة الأولى: بأن هذا كلام لا يقوله بشر، فليس عليه طابع البشر.
إن الفكر البشري لا يرتاد هذه الآفاق.. فما اهتمام الفكر البشري يتقصي وإحصاء الورق الساقط من الشجر، في كل أنحاء الأرض؟ إن المسألة لا تخطر على بال الفكر البشري ابتداء.. إنما الورق الساقط شأن يحصيه الخالق، ويعبر عنه الخالق.
وما اهتمام الفكر البشري بكل حبة مخبوءة في ظلمات الأرض؟.. إنما هو شأن يحصيه الخالق ويعبر عنه الخالق.
وما اهتمام الفكر البشري بهذا الإطلاق
{وَلَا رَطْبٍۢ وَلَا يَابِسٍ}
إن أقصى ما يتجه إليه تفكير البشر هو الانتفاع بالرطب واليابس مما بين أيديهم، فأما التحدث عنه كدليل للعلم الشامل، فهذا ليس من المعهود في اتجاه البشر وتعبيراتهم.. إنما كل رطب وكل يابس شأن يحصيه الخالق ويعبر عنه الخالق.
ولا يفكر البشر أن تكون كل ورقة ساقطة، وكل حبة مخبوءة، وكل رطب وكل يابس في كتاب مبين، وفي سجل محفوظ فما شأنهم بهذا، وما فائدته لهم؟ وما احتفالهم بتسجيله؟ إنما الذي يحصيه ويسجله هو صاحب الملك، الذي لا يند عنه شيء في ملكه، الصغير كالكبير، والحقير كالجليل، والمخبوء كالظاهر، والمجهول كالمعلوم، والبعيد كالقريب.
إن هذا المشهد الشامل الواسع العميق الرائع كما أنه لا يتجه إليه الفكر البشري، وكذلك لا تلحظه العين البشرية، ولا تلم به النظرة البشرية.. إنه المشهد الذي يتكشف هكذا بجملته لعلم الله وحده، المشرف على كل شيء، المحيط بكل شيء، الحافظ لكل شيء، الذي تتعلق مشيئته وقدره بكل شيء..".
إنها رسالة - في هذه الآية الكريمة - تلفت النظر والفكر إلى عظمة علم الله تعالى الواحد الأحد في ذاته وفي صفاته وفي أفعاله سبحانه وتعالى.
ورسالة أخرى تقول للإنسان: إذا كانت حركة الورقة الساقطة من شجرتها هي ضمن هذا الإحصاء الدقيق، أليست كل حركة للإنسان وكل سكون له ضمن هذا الإحصاء؟ أليست كل حركة لعينه وكل غمزة لها ضمن هذا الإحصاء؟ إنها تذكرة وأي تذكرة…!