تعظيم الله في أمهات العبادة


أحمد بن عثمان المزيد

والنبيُّ ﷺ أرشدَ إلى تعظيمِ اللهِ ﷻ في أمَّهاتِ العبادةِ فالصلاة فهي أعظم الشعائر التعبدية بعد الشهادتين كلها قائمة على تعظيم اللهِ ﷻ، وكان ﷺ يستفتحُ الصلاةَ بعباراتِ التعظيمِ والتمجيدِ والإجلالِ للهِ ﷻ. ففي السننِ عن عائشةَ وأبي سعيدٍ أن النبيَّ ﷺ كانَ إذا استفتحَ الصلاةَ قال: 

«سبحانك اللهمَّ وبحمدِك وتبارَكَ اسمُكَ، وتعالى جدُّك ولا إله غيرُك»

وفي صحيح مسلمٍ عن عليٍّ بنِ أبي طالبٍ رضي الله عنه قالَ: كان رسولُ اللهِ ﷺ إذا قامَ إلى الصلاةِ قال: 

«وجَّهْتُ وجهِيَ للذي فطرَ السمواتِ والأرضَ حنيفًا وما أنا من المشركينَ إنَّ صَلاتي ونسُكي ومحيايَ ومماتي للهِ ربِّ العالمينَ، لا شريكَ له وبذلكَ أمرتُ وأنا من المسلمينَ، اللَّهُمَّ أنت الملِكُ لا إله إلَّا أنت، أنت ربي وأنا عبدُك، ظلمتُ نفسي، واعترفتُ بذنبي فاغفِرْ لي ذنوبِي جميعًا إنَّه لا يغفرُ الذنوبَ إلَّا أنتَ، واهدني لأحسنِ الأخلاقِ لا يهدي لأحسَنِهَا إلَّا أنتَ، واصرِفْ عني سيئَهَا لا يصرفُ عني سيِّئَهَا إلا أنتَ، لبيك وسعدَيْك، والخيرُ كلُّه في يديْك، والشرُّ ليس إليك، أنا بك وإليك تباركْتَ وتعالَيْتَ، أستغفِرُك وأتوبُ إليك»

وفي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول الله ﷺ إذا قام إلى الصلاة في جوف الليل قال:  

«اللهم لك الحمد أنت نور السموات والأرضِ ومَن فيهن ولكَ الحمدُ، أنت قَيَّامُ السمواتِ والأرضِ ومَنْ فيهن، ولكَ الحمدُ، أنت ربُّ السموات والأرض ومن فيهن، أنت الحقُّ، ووَعدُك الحقُّ، وقولُك الحقُّ، ولقاؤُك حَقٌّ، والجنةُ حَقٌّ، والنارُ حَقٌّ، والنبيون حَقٌّ، ومحمد ﷺ حَقٌّ، والسَّاعة حَقٌّ، اللَّهُمَّ لَكَ أسْلمتُ، وبك آمنتُ، وعليكَ توكلتُ، وإليكَ أنبتُ، وبكَ خاصمتُ، وإليكَ حاكمتُ، فاغفر لي ما قدَّمتُ وما أخرّتُ، وما أسررتُ وما أعلنتُ، أنت إلهي لا إله إلَّا أنت»

فهو ﷺ أعظمُ الناسِ تعظيمًا لربِّه تعالى، وأحسنُهم ثناءً عليه وافتقارًا إليه ورغبةً في فضْلِه ورهبةً من عذابِه. وفاتحةُ الكتابِ كذلكَ من أعظمِ ما عُظِّمَ به اللهُ تبارك وتعالى، ولذلكَ جاءَ في الحديثِ القُدْسِيِّ:

«قسمتُ الصلاةَ بيني وبين عبدي نصفينِ، ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبدُ: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ قال الله تعالى: حَمِدني عبدي، وإذا قال: ﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ قال الله تعالى: أثنَى عليَّ عبدي، وإذا قال: ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ قال: مَجَّدني عبدي ـ وقال مرةً فَوَّضَ إليَّ عبدي ـ فإذا قال: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ قال: هذا بيني وبينَ عبدي ولعبدِي ما سأل، فإذا قال: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ﴾ قال: هذا لعبدِي ولعبدِي ما سألَ»

والركوعُ كذلكَ من مواضِعِ تعظيمِ اللهِ ﷻ في الصلاةِ لقولِه ﷺ: 

«أما الركوع  فعظِّمُوا فيه الربَّ"

وفي السننِ عن حذيفةَ رضي الله عنه أنه سَمِعَ رسولَ اللهِ ﷺ يقولُ إذا ركعَ: 

«سبحانَ ربي العظيمِ» 

ثلاث مراتٍ، وإذا سجَدَ قال: 

«سبحانَ ربي الأعلى» 

ثلاثَ مراتٍ. وهذا يدلُّ على أن التعظيمَ يكونُ في الركوعِ والسجودِ إلَّا أنَّه في الركوعِ يكونُ الثناءُ والتعظيمُ أكثرُ أما السجودُ فيكونُ فيه التسبيحُ الذي هو تعظيمٌ للهِ ﷻ ويكونُ فيه الدعاءُ والمسألةُ قال ﷺ: 

«أما الركوعُ فعظِّمُوا فيه الربَّ وأما السجودُ فاجتهدُوا في الدعاءِ فَقَمِنٌ أنْ يُستجَابَ لكم»

وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسولُ الله ﷺ يُكثِرُ أن يَقُولَ في ركوعِه وسجودِه: 

«سبحانَكَ اللهمَّ ربَّنا وبحمدِكَ اللهمَّ اغفِرْ لي» 

وعنها قالت: كان رسولُ الله ﷺ يقولُ في ركوعِه وسجودِه 

«سُبوحٌ قُدوسٌ، ربُّ الملائكةِ والروحِ»

وكذلك جعلَ النبيُّ ﷺ ذِكْرَ ما بعد الرفعِ من الركوعِ منصبًّا على تعظيمِ اللهِ جلَّ وعلا، فعن أبي سعيدٍ رضي الله عنه قال: كان رسولُ اللهِ ﷺ إذا رفَعَ رأسَه من الركوعِ قال: 

«اللهم ربَّنا لك الحمدُ ملْءَ السمواتِ ومِلْءَ الأرضِ، ومِلْءَ ما بينهما، وملءَ ما شئتَ من شيءٍ بعدُ، أهلَ الثناءِ والمجدِ، أحقُّ ما قال العبدُ وكلُّنَا لك عبدٌ، اللهمَّ لا مانعَ لما أعطيتَ، ولا معطيَ لما منعتَ، ولا ينفعُ ذا الجدِّ منك الجدُّ»

أما الحجُّ فإنه كذلك من العباداتِ التي يَتَجَلَّى فيها تعظيمُ الربِّ جلَّ جلالُه في كلِّ منسكٍ من مناسكِهِ فإن هناك كثيرًا من أفعالِ الحجِّ غيرُ معقولةِ المعنى، غير أنَّ المعنى الذي يجمَعُها جميعًا هو الطاعةُ المطلقةُ والتعظيمُ المطلقُ للهِ تعالى، فالطوافُ يكونُ حولَ البيتِ الذي هو من الحجارةِ، والحجرُ الأسودُ يُقَبَّلُ مع كونِه حجرًا، ورَمْيُ الجِمارِ إنما هو حَجَرٌ يُرمى به حَجَرٌ، فما الذي جعلَ هذا الحجَرَ يُرْمَى وهذا الحَجَرَ يُقَبَّلُ وهذا الحَجَرُ يُطافُ حولَه سِوَى العبوديةِ المحضةِ والتعظيمِ الخالصِ للهِ تعالى! وفي التلبيةِ التي هي شعارُ الحجِّ أعظمُ عباراتِ الثناءِ والتعظيمِ للهِ ﷻ: «لبيك اللهُمَّ لبيك، لبيك لا شريكَ لك لبيك، إن الحمدَ والنعمةَ لك والملكُ، لا شريكَ لك»

ذكر ابنُ القيمِ رَحِمَهُ اللهُ في معنى التلبيةِ كلامًا جميلًا نذكرُ منهُ ما يدلُّ على تعظيمِ الربِّ تعالى حيثُ ذكرَ من مَعَانيها: إجابةً لك بعدَ إجابةٍ، أو انقيادًا لك بعد انقيادٍ، أي انقدتُ لك، وَسَعَتْ نفسِي خاضعةً ذليلةً، أو حبًّا لك بعد حبٍّ، أو أخلَصْتُ لُبِّي وقَلْبِي لك، فهي شعارُ التوحيدِ ملةِ إبراهيمَ الذي هو روحُ الحجِّ ومقصدُه، بلْ روحُ العباداتِ كلِّها والمقصودُ منها، ولهذا كانت التلبيةُ مفتاحَ هذه العبادةِ التي يُدْخَلُ فيها بها.

وكذلك فإنها مشتملةٌ على الاعترافِ للهِ بالنعمةِ كلِّها ولهذا عَرَّفَها باللامِ المفيدةِ للاستغراقِ أي النعمُ كلُّها لك وأنت مُوليها والمنعمُ بها.

ومشتملةٌ كذلك على الاعترافِ بأن المُلْكَ كلَّه للهِ وحده، فلا مُلْكَ على الحقيقةِ لغيرِه. 
واللهُ سبحانه يفرَّقُ في صفاتِه بين الملكِ والحمدِ، وسَوَّغَ هذا المعنى أنَّ اقترانَ أحدُهُما بالآخرِ من أعظمِ الكمالِ والملكِ. والملكُ وحدَه كمالٌ، والحمدُ كمالٌ، واقترانُ أحدِهما بالآخرِ كمالٌ، فإذا اجْتمعَ الملكُ المتضمِّنُ للقدرةِ، مع النعمةِ المتضمِّنةِ لغايةِ النفعِ والإحسانِ والرحمةِ، مع الحمدِ المتضمِّنِ لعامةِ الجلالِ والإكرامِ ا لداعِي إلى محبَّتِه، كان في ذلك من العظمةِ والكمالِ والجلالِ ما هو أولى به وهو أهلُه"
السابق التالى

مقالات مرتبطة بـ تعظيم الله في أمهات العبادة

  • الطاعة في الأزمنة الفاضلة

    عبدالعزيز الطريفي

    الطاعة في الأزمنة الفاضلة من تعظيم شعائر الله، ومن عدم تعظيم شعائره معصيته في زمن يحب فيه طاعته (ومن يُعظّم شعائر

    02/08/2019 2050
  • كيف يعظم المسلم ربه؟

    عبد الله بن مشبب بن مسفر القحطاني

    تعظيم الله تبارك وتعالى يكون: بتعظيم أسمائه وصفاته، ويكون تعظيمه في القلب بمحبته والاعتراف بعظمته والتواضع له، جاء

    23/07/2022 783
  • أحيانا أحب العبادة

    محاسن الشرهان

    س: أحيانًا أحب العبادة وأخضع الجوارح وتكون العبادة كفعل الصلوات وغيره، فهل الآن أَسمَّى عابد بفعلي لبعض العبادات

    16/01/2020 1945
معرفة الله | علم وعَملIt's a beautiful day