ضعف الطالب والمطلوب


صالح أحمد الشامي

قال الله تعالى:

{يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَٱسْتَمِعُوا لَهُۥٓ ۚ إِنَّ ٱلَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ ٱجْتَمَعُوا لَهُۥ ۖ وَإِن يَسْلُبْهُمُ ٱلذُّبَابُ شَيْـًٔا لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ۚ ضَعُفَ ٱلطَّالِبُ وَٱلْمَطْلُوبُ مَا قَدَرُوا ٱللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِۦٓ ۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَقَوِىٌّ عَزِيزٌ}

[الحج: 73- 74]

قال ابن القيم رحمه الله:

"حقيق على كل عبد أن يستمع قلبه لهذا المثل، ويتدبره حق تدبره، فإنه يقطع مواد الشرك من قلبه؛ وذلك أن المعبود أقل درجاته أن يقدر على إيجاد ما ينفع عابده، وإعدام ما يضره.

والآلهة التي يعبدها المشركون من دون الله لن تقدر على خلق الذباب، ولو اجتمعوا كلهم لخلقه، فكيف ما هو أكبر منه؟ ولا يقدرون على الانتصار من الذباب إذا سلبهم شيئاً مما عليهم من طيب ونحوه، فيستنقذونه منه، فلا هم قادرون على خلق الذباب الذي هو أضعف الحيوانات، ولا على الانتصار منه واسترجاع ما سلبهم إياه، فلا أعجز من هذه الآلهة…!

هذا المثل من أبلغ ما أنزله الله سبحانه في بطلان الشرك وتجهيل أهله، وتقبيح عقولهم، والشهادة على أن الشيطان قد تلاعب بهم أعظم من تلاعب الصبيان بالكرة..".

وقال في الظلال:

"هذا المثل يضع قاعدة ويقرر حقيقة 

{إِنَّ ٱلَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ ٱجْتَمَعُوا لَهُۥ}

كل ما تدعون من دون الله من آلهة مدعاة، من أصنام وأوثان، ومن أشخاص وقيم وأوضاع، تستنصرون بها من دون الله وتستعينون بقوتها، وتطلبون منها النصر والجاه.. كلهم لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له.

والذباب صغير حقير، ولكن هؤلاء الذين يدعونهم آلهة لا يقدرون - ولو اجتمعوا وتساندوا - على خلق هذا الذباب الصغير الحقير.

وخلق الذباب مستحيل كخلق الحمل والفيل، لأنه يحتوي على ذلك السر المعجز، سر الحياة، فيستوي في استحالة خلقه مع الجمل والفيل.

ولكن الأسلوب القرآني المعجز يختار الذباب الصغير الحقير لأن العجز عن خلقه يلقى في الحس ظل الضعف أكثر مما يلقيه العجز عن خلق الجمل والفيل! دون أن يخل هذا بالحقيقة في التعبير، وهذا من بدائع الأسلوب القرآني العجيب.

ثم يخطو خطوة أوسع في إبراز الضعف المزري 

{وَإِن يَسْلُبْهُمُ ٱلذُّبَابُ شَيْـًٔا لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ۚ }

والآلهة المدعاة لا تملك استنقاذ شيء من الذباب حين يسلبها إياه، سواء كانت أصناماً او أوثاناً أو أشخاصاً. 

وقد اختير الذباب بالذات وهو ضعيف حقير، وهو في الوقت ذاته يحمل أخطر الأمراض، وقد يسلب العيون والجوارح..

وهذه حقيقة أخرى كذلك يستخدمها الأسلوب القرآني المعجز، ولو قال: وإن تسلبهم السباع شيئاً لا يستنقذوه منها.. لأوحى ذلك بالقوة بدل الضعف، والسباع لا تسلب شيئاً أعظم مما يسلبه الذباب، ولكنه الأسلوب القرآني العجيب.

ويختم ذلك المثل المصور الموحي بهذا التعقيب 

{ضَعُفَ ٱلطَّالِبُ وَٱلْمَطْلُوبُ} 

ليقرر ما ألقاه المثل من ظلال، وما أوحى به إلى المشاعر والقلوب.

وفي أنسب الظروف.. والمشاعر تفيض بالزراية والاحتقار لضعف الآلهة المدعاة، يندد بسوء تقديرهم لله. ويعرض قوة الله الحق بأنه إله:

{مَا قَدَرُوا ٱللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِۦٓ ۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَقَوِىٌّ عَزِيزٌ}

* ما قدروا الله حق قدره، وهم يشركون به تلك الآلة الكلية العاجزة، التي لا تخلق ذباباً ولو اجتمعت له بل لا تستفيد ما يسلبها الذباب إياه.

* وما قدر الله حق قدره، وهم يرون آثار قدرته، وبدائع مخلوقاته، ثم يشركون به من لا يستطيعون خلق الذباب الحقير.

* وما قدروا الله حق قدره، وهم يستعينون بتلك الآلهة العاجزة.. ويدعون الله القوي العزيز..".


السابق التالى

مقالات مرتبطة بـ ضعف الطالب والمطلوب

  • مثال ضعف الطالب والمطلوب

    مثال ضعف الطالب والمطلوب

    ﴿يَا أَيهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا

    14/03/2024 457
  • إقامة العدل

    صالح أحمد الشامي

    قال الله تعالى: {يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا كُونُوا قَوَّٰمِينَ بِٱلْقِسْطِ شُهَدَآءَ لِلَّهِ وَلَوْ

    07/10/2021 680
  • حكم اليأس و القنوط

    الدرر السنية

    أجمع العلماء على تحريم اليأْس والقنوط، ومن اليأْس والقنوط ما يخرج من الملة، ومنه ما لا يخرج من الملة، وإنما هو من

    24/08/2021 1342
معرفة الله | علم وعَملIt's a beautiful day