الشبهات حول اسم الله (الحسيب)


فريق عمل الموقع

الشبهة الأولى:

يقول القائل: هل سيحاسب الله جميع الخلائق في وقت واحد؟

الرد عليها:

الظاهر عدم حساب الناس كلهم في وقت واحد.

قال تعالى: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا {فاطر:44}، ولكن هل يحاسب الله الناس كلهم فعلاً في وقت واحد فهناك تفصيل في المسألة، فالأنبياء والشهداء اختلف في حسابهم هل يحاسبون أم لا.

وأما غيرهم فالظاهر تفاوتهم فأول من يحاسب هم أمة الرسول صلى الله عليه وسلم، لما في الحديث: نحن آخر الأمم وأول من يحاسب يقال أين الأمة الأمية ونبيها فنحن الأخرون الأولون. رواه ابن ماجه وصححه الألباني.

وفي حديث مسلم: نحن الآخرون من أهل الدنيا الأولون يوم القيامة المقضي لهم قبل الخلائق، وهم يحاسبون على حقوق الله أولاً وأولها الصلاة ثم على حقوق العباد وأولها الدماء. كما قرره المباركفوري.

الشبهة الثانية:

يقول القائل: أتوكل على الله وآخذ بأسباب قوله تعالى: {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق3] ولكن لا أرى استجابة من الله ولا أرى نتيجة هذا التوكل في تغير الواقع.

الرد عليها:

قال تعالى {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً } [الطلاق3] أي أن التقديم والتأخير في وصولك مرادك هذا بيد الله يقدم لك او يؤخر عنك هذا الفعل التقديم والتأخير لله عز وجل بناء على الحكمة .

ما معنى الحكمه؟ أن يصلك مرادك في الأمر في الوقت الذي يناسبك والوقت الذي يصلح لك إذ ربما يكون فيه مضرة لك فالتقديم والتأخير بناء على مصلحة بحكمة الحكيم الخبير الذي يعلم نفسك وما الذي يصلحك وما الذي يضرك في هذا الوقت

- قال ابن القيم رحمه الله

فلما ذكر كفايته للمتوكل عليه ربما أوهم ذلك تعجيل الكفاية وقت التوكل تعقبه بقوله { قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً } [الطلاق3] ما معنى قدرا؟ أي وقتا لا يتعداه فهو يسوقه في وقته الذي قدره فيه فلا يستعجل المتوكل ويقول قد توكلت ودعوت فلم أرى شيئا ولم تحصل لي الكفاية فالله بالغ أمره في وقته الذي قدره له.

 

الشبهة الثالثة:

يدعي بعض المغالطين أن العقيدة الإسلامية تدعو إلى التواكل والسلبية والتقصير في العمل وعدم الأخذ بالأسباب، ويستدلون على ذلك بما حدث لإبراهيم - عليه السلام - عندما ألقي في النار، وجاءه جبريل وقال له: ألك حاجة؟ فأجاب إبراهيم: أما إليك فلا، فاعتبروا كلام إبراهيم إعراضا عن الأخذ بالأسباب. واستدلوا أيضا بموقف إبراهيم الخليل مع زوجته هاجر، عندما تركها هي وطفلها الرضيع في قلب الصحراء دون راع أو أنيس. كما يستدلون بقوله صلى الله عليه وسلم: «لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصا وتروح بطانا»

الرد عليها:

أولا. الإسلام يدعو للتوكل، وينهى عن التواكل والسلبية:

التوكل عبادة من أفضل عبادات القلوب، وخلق من أعظم أخلاق الإيمان، وهو منزلة من منازل الدين كما يقول الإمام الغزالي، بل إن التوكل هو نصف الدين، كما يقول ابن القيم، ونصفه الآخر هو الإنابة، وذلك مصداق قوله تعالى: )عليه توكلت وإليه أنيب (88)( (هود).

وحقيقة التوكل تعنى: الاعتماد المطلق على الله - عز وجل - في جميع الأمور من جلب منافع ودفع مضار بعد الاجتهاد وبذل الوسع والأخذ بالأسباب، والتوكل عبادة عظيمة، لا يجوز صرفها لغير الله تعالى، وقد كثر كلام أعداء الإسلام عن التوكل، وادعوا أن الإسلام يدعو للتواكل والركود وترك العمل، وهذا كلام غير صحيح، ومخالف لما ورد في آيات عديدة من آيات القرآن الكريم، وكذلك العديد من الأحاديث النبوية الشريفة.

ويصعب في هذا المجال حصر الآيات التي تحدثت عن التوكل، ويمكن التمثيل لها بقوله تعالى: )ولله غيب السماوات والأرض وإليه يرجع الأمر كله فاعبده وتوكل عليه وما ربك بغافل عما تعملون (123)( (هود)، وقوله تعالى: )وتوكل على الحي الـذي لا يـموت وسبـح بحمـده وكفـى بـه بذنـوب عبـاده خبيـرا (58)( (الفرقان)، وقولـه تعالـى: )وتوكـل على العزيـز الرحيــم (217)( (الشعراء)، وقوله تعالى: )فتوكل على الله إنك على الحق المبين (79)( (النمل)، وقوله تعالى: )فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين (159)( (آل عمران)، وقوله تعالى: )فأعرض عنهـم وتوكـل على الله وكفـى بالله وكيــلا (81)( (النساء)، كل هذه الآيات وغيرها أمر من الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم أن يتوكل عليه دون غيره، وكانت دعوته عز وجل للمؤمنين أيضا أن يتوكلوا عليه سبحانه، وذلك في قوله: )وعلى الله فليتوكل المؤمنون (11)( (إبراهيم)، وجاء على لسان الرسل جميعا قوله تعالى: )وما لنا ألا نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا ولنصبرن على ما آذيتمونا وعلى الله فليتوكل المتوكلون (12)( (إبراهيم)، والآيات التي تتحدث عن التوكل على الله - عز وجل - كثيرة في كتاب الله العزيز.

 

والتوكل على الله لا يعني ترك العمل وعدم الأخذ بالأسباب لقضاء حوائج الناس، بل التوكل الصحيح هو ما كان اعتمادا عليه - عز وجل - مع الأخذ بالأسباب التي خلقها سبحانه لكل عمل؛ لكي تقع على وجهه الصحيح، ومن يقرأ القرآن الكريم يجد أن مادة "عمل" وردت في القرآن ما يقرب من 350 مرة، كلها دعوة إلى العمل، والأخذ بأسباب النجاح؛ حتى يتحقق التوكل الصحيح على الله - عز وجل - قال تعالى: )إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهـم أجرهـم عنـد ربهـم ولا خـوف عليهـم ولا هــم يحزنون (62)( (البقرة)، وقال تعالى: )يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها وتوفى كل نفس ما عملت وهم لا يظلمون (111)( (النحل)، وقال تعالى: )لمثل هذا فليعمل العاملون (61)( (الصافات)، وغير ذلك العديد من الآيات التي تؤكد ضرورة العمل مع التوكل؛ لأن عمل بلا توكل على الله نقص في الدين، وتوكل بلا عمل نقص في العقل، فكلاهما وجهان لعملة واحدة.

وإذا نظرنا في سنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - نجد فيها العديد من الأحاديث التي تدعو إلى التوكل على الله، وترك التواكل المذموم الذي هو اعتماد على الله - عز وجل - دون أخذ بالأسباب، فهذا ليس توكلا صحيحا، وكان مما قاله النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا:

.  ورد في حديث السبعين ألفا الذين يدخلون الجنة بغير حساب من هذه الأمة أنهم: «هم الذين لا يسترقون، ولا يتطيرون، ولا يكتوون، وعلى ربهم يتوكلون».

·      قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت».

·       قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصا وتروح بطانا».

·       قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا خرج الرجل من بيته فقال: بسم الله، توكلت على الله، لا حول ولا قوة إلا بالله، يقال له حينئذ: هديت، وكفيت، ووقيت، فتتنحى له الشياطين، فيقول له شيطان آخر: كيف لك برجل قد هدي وكفي ووقي»؟!

وأحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - في هذا الجانب كثيرة، وكلها تؤكد ضرورة الاعتماد على الله - عز وجل - لقضاء الحاجات مع العمل، والأخذ بالأسباب، فكيف يدعي هؤلاء أن الإسلام دين التواكل وترك العمل؟!

 

ثانيا. سيرة الأنبياء والرسل والصحابة والتابعين تؤكد على توكلهم لا تواكلهم:

لقد عرض القرآن الكريم نماذج عظيمة مذهلة لتوكل الأنبياء الكرام - عليهم السلام - وهم يواجهون أقوامهم السائرين في غيهم، التائهين في ضلالهم وفجورهم، فهذا هود - عليه السلام - نذر نفسه للرسالة التي حمل إياها والأمانة التي كلف بها، فانبرى لقومه داعيا ناصحا، ومحذرا لهم ومشفقا، فما وجد منهم غير الكفر والفجور والسخرية والسب الغليظ، بل إنهم ليزعمون أن آلهتهم وأوثانهم قد أصابته بشىء من عقابها وأذاقته لعنة من لعناتها: )قالوا يا هود ما جئتنا ببينة وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك وما نحن لك بمؤمنين (53) إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء قـال إنـي أشهــد الله واشهـدوا أنـي بــريء ممـا تشركــون (54)( (هود).

وهنا يصرخ بهم هود صرخته المدوية، صرخة المؤمن الواثق بربه، المتوكل عليه سبحانه، الساخر من حمقهم وغفلتهم، المتحدي لهم ولأوثانهم أجمعين: )إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخـذ بناصيتهــا إن ربـي على صــراط مستقيـــم (56)( (هود).

وأما إبراهيم - عليه السلام - فقد وقف أمام عناد أبيه وقومه وقفة المؤمن الواثق المطمئن، فأخذ يحاج قومه باللين والرفق والحجة والبرهان، فما وجد إلا رؤوسا وقلوبا تمكن منها الشرك؛ حيث تعلق أولئك الوثنيون بأصنامهم وأمجادهم التي تهاوت واحدا واحدا تحت مطارق إبراهيم، عندئذ أجمعوا أمرهم ومكروا مكرهم وأوقدوا نارا عظيمة، وحملوا إبراهيم - عليه السلام - على المنجنيق مقيدا ليقذفوه من بعيد، واجتمع الملأ ينظرون، فلما أيقن إبراهيم من إلقائه في النار، ما أصابه الجزع ولا اعتراه خوف، وإنما قال كلمته العظيمة: «حسبي الله ونعم الوكيل»

وهي كلمة لا يقولها إلا المؤمنون، ولا يلهج بها إلا المتوكلون الصادقون، فلما توكل على الله كفاه ولما صدق مع الله أنقذه ونجاه: )قلنا يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم (69) وأرادوا به كيدا فجعلناهم الأخسرين (70)( (الأنبياء).

 

وأما إمام المتوكلين محمد - صلى الله عليه وسلم - فسيرته ملأى بنماذج من توكله وعظيم يقينه بالله تعالى؛ فقد خرج مهاجرا مع أبي بكر - رضي الله عنه - فدخلا الغار مختبئين وحام المشركون حول باب الغار، ووقفوا على بابه تكاد قلوبهم تميز من الغيظ على محمد وصاحبه، فخشى الصديق رضي الله عنه على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يمس بأذى فقال: يا رسول الله، لو نظر أحدهم تحت قدمه لأبصرنا، فقال - صلى الله عليه وسلم - بكل هدوء واطمئنان، وبلغة المتوكل على ربه، المعتمد على مولاه: «ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما»؟

وفي حمراء الأسد - في السنة الثالثة للهجرة بعد غزوة أحد مباشرة - جمع المشركون جموعهم لقتال النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، فخرج - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه بكل عزيمة وإصرار لمواجهة الجموع المتربصة، متوكلين على الله وحده، طالبين المدد منه سبحانه: )الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل (173) فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم (174)( (آل عمران).

قال ابن عباس رضي الله عنه: «حسبنا الله ونعم الوكيل قالها إبراهيم - عليه السلام - حين ألقي في النار، وقالها محمد - صلى الله عليه وسلم - حين قال له الناس: إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم».

 

ثالثا. أهمية التوكل على الله تعالى والحاجة إليه في مواجهة الحياة:

إن التوكل الصحيح على الله - عز وجل - كفيل بتصحيح أوضاعنا، وانتشالنا من تخلفنا، وتحقيق النصر على خصوم التصور الإسلامي في الحياة والمجتمع، فالله - عز وجل - يقول: )ومن يتوكل على الله فهو حسبه( (الطلاق: 3)، فالحاكم المسلم محتاج إلى صدق التوكل على الله تعالى وهو يواجه التحديات المحيطة به وبالمسلمين من كل جانب، والأخطار المحدقة من كل اتجاه، وهو محتاج إلى صدق التوكل على الله، وهو يواجه وجموع الأعداء بكل مكرهم وكيدهم، ومحتاج إلى صدق التوكل على الله وهو يواجه المرجفين في الأرض، والمنافقين المندسين في الصفوف، يزينون الباطل ويمكرون المكر الخبيث، فإن النصر إنما ينزل من السماء بصدق التوكل وحرارة الدعاء، لا بكثرة عدد ولا عدة وحدهما: )لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين (25)( (التوبة).

والتوكل على الله يحتاج إليه العالم الرباني حين يحتاج إلى كلمته العادلة الفاصلة في الأمور والأحداث، وعند حلول الفتن والنكبات، ويحتاج إلى التوكل على الله حين تشرئب أعناق الأمة منتظرة فتاويه في دقائق الأمور وعظمائها؛ فيقول كلمة الحق لا يخشى في الله لومة لائم.

والداعية المسلم محتاج إلى التوكل على الله - عز وجل - أيا كان موقعه، مدرسا كان أو موظفا خطيبا أو مسئولا، فالدعوة طريق شاق طويل، تحتاج إلى صدق اللجوء إلى الله، وحسن التوكل عليه سبحانه، فالمتربصون بالدعوة كثر والواقفون في طريقها متوافرون في كل مكان وزمان.

والتوكل على الله - عز وجل - يحتاج إليه رجل الحسبة وهو يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويقطع دابر الفساد في غير وجل، معتمدا على الله وحده، طالبا العون والتوفيق منه سبحانه، متبرئا من حوله وقوة نفسه.

وبالجملة فالتوكل يحتاجه كل من رضي بالله ربا، وبالإسلام دينا؛ فالتوكل على الله وتفويض الأمر إليه سبحانه، وتعلق القلوب به - عز وجل - من أعظم الأسباب التي يتحقق بها المطلوب ويندفع بها المكروه، وتقضى الحاجات، وكلما تمكنت معاني التوكل من القلوب تحقق المقصود أتم تحقيق، وهذا هو حال جميع الأنبياء والمرسلين، وقد تقدم في قصة إبراهيم - عليه السلام - أنه لم يزد - حين ألقي في النار - على قوله: "حسبي الله ونعم الوكيل".

وهي ذات الكلمة التي رددها الصحابة الكرام يوم حمراء الأسد - صبيحة يوم أحد - يقول تعالى: ) الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل (173) فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله( (آل عمران).

 وكذلك ما كان من موسى - عليه السلام - حين توجه تلقاء مدين، قال تعالى: )ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون ووجد من دونهم امرأتين تذودان قال ما خطبكما قالتا لا نسقي حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير (23) فسقى لهما ثم تولى إلى الظل فقال رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير (24)( (القصص)، وتذكر كتب التفسير أنه كان ضاويا خاوي البطن، لم يذق طعاما منذ ثلاث ليال، وحاجة الإنسان لا تقتصر على الطعام فحسب، فلما أظهر فقره لله ولجأ إليه - عز وجل - بالدعاء، وعلق قلبه به ما تخلفت الإجابة، يقول تعالى: )فجاءته إحداهما تمشي على استحياء قالت إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت( (القصص: 25)، وكان هذا الزواج المبارك من ابنة الشيخ الصالح.

ونفس الأمر يتكرر من نبي الله موسى، لما سار هو ومن آمن معه حذو البحر، حين أتبعهم فرعون وجنوده بغيا وعدوا، فكان البحر أمامهم وفرعون خلفهم، أي أنها هلكة محققة، ولذلك قالت بنو إسرائيل: )إنا لمدركون (61)( (الشعراء)، قال نبي الله موسى: )قال كلا إن معي ربي سيهدين (62)( (الشعراء). قال العلماء: ما كاد يفرغ منها إلا وأمر: )أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم (63)( (الشعراء)، فكان في ذلك نجاة موسى ومن آمن معه، وهلكة فرعون وجنوده، ولذلك قيل: "فوض الأمر إلينا، نحن أولى بك منك"، إنها كلمة الواثق المطمئن بوعد الله، الذي يعلم كفاية الله لخلقه: )أليس الله بكاف عبده ويخوفونــك بالذيـن من دونـه ومن يضلل الله فمــا لـه من هــاد (36)( (الزمر).

 

رابعا. مفهوم التوكل وصلته بالأخذ بالأسباب:

لا بد من الأخذ بالأسباب، فقد أمر الله - عز وجل - الرسول باستكمال العدة فقال: )وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون (60)( (الأنفال)، وقال عز وجل: )فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك وحرض المؤمنين عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا والله أشد بأسا وأشد تنكيلا (84)( (النساء)، وقال عز وجل: )يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون (45)( (الأنفال)، ثم بعد ذلك قد تنخرق الأسباب للمتوكلين على الله، فالنار صارت بردا وسلاما على إبراهيم، والبحر - الذي هو مكمن الخوف - صار سبب نجاة موسى ومن آمن معه، ولكن لا يصح ترك الأخذ بالأسباب بزعم التوكل، كما لا ينبغي التعويل على الحول والطول أو الركون إلى الأسباب، فخالق الأسباب قادر على تعطيلها، وشبيه بما حدث من نبي الله موسى ما كان من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الهجرة، عندما قال أبو بكر رضي الله عنه: «لو نظر أحد المشركين تحت قدميه لرآنا، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما»؟

وهذا الذي عناه - سبحانه وتعالى - بقوله: )إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم (40)( (التوبة).

 

 والأخذ بالأسباب هو هدي سيد المتوكلين على الله - صلى الله عليه وسلم - في يوم الهجرة وغيره؛ إذ القدح في الأسباب قدح في التشريع، والاعتقاد في الأسباب مع الغفلة عن خالق الأسباب ومسببها قدح في التوحيد، وقد فسر العلماء التوكل فقالوا: ليكن عملك هنا ونظرك في السماء، وفي الحديث عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: «قال رجل: يا رسول الله أعقلها وأتوكل، أو أطلقها وأتوكل؟ قال: أعقلها وتوكل».

 

مواقف الناس من الأسباب على أربعة أقسام:

1.   الالتفات إلى الأسباب بالكلية واعتماد القلب والجوارح عليها من غير نظر إلى مسببها: وذلك كنظرة الماديين والعقلانيين الذين وقعوا في الشرك؛ لأنهم أثبتوا موجدا مع الله مستقلا بالضر والنفع، وهذا باطل مخالف للكتاب والسنة والإجماع، كما أن الأسباب قد تتخلف عن مسبباتها - بإذن الله - كما يشهد لذلك الواقع.

2.   الإعراض عن الأسباب بالكلية للتوكل: وهؤلاء المعرضون لا يرون تحقيق التوكل إلا في ترك الأسباب بالكلية؛ فتركوا التكسب والعمل والاحتراز والاحتياط والتزود في السفر والطعام؛ لأنهم يرون ذلك كله منافيا للتوكل, ولهم شبه ضعيفة أجاب عنها العلماء المحققون؛ كمحمد بن الحسن الشيباني في كتابه "الاكتساب في الرزق المستطاب"، والخلال في كتابه "الحث على التجارة والصناعة والعمل"، والحارث المحاسبي في كتابه "المكاسب"، وابن الجوزي، وابن تيمية، وابن القيم، وابن مفلح، وابن رجب... وغيرهم، كما أن الإعراض عن الكسب بدعوى التوكل له آفات ومفاسد يصعب حصرها، وهذا الإعراض حكم عليه العلماء بأنه قدح في الشرع.

3.   نفي تأثير الأسباب بالكلية، وقد وصف العلماء هذا القول بأنه مكابرة للحس، وهؤلاء يرون أن الله لم يخلق شيئا سببا، ولا جعل في الأسباب قوى وطبائع تؤثر، وغرضهم الرد على القدرية النفاة، وهذا الموقف مخالف للكتاب والسنة، مخالف كذلك للحس السليم.

4.   قيام الجوارح بالأسباب واعتماد القلب على مسبب الأسباب - سبحانه وتعالى - وهذا مذهب أهل السنة والجماعة، وهو الحق الذي دل عليه الشرع والعقل، وهو الوسط في كل مذهب، فأثبت للأسباب تأثيرا في مسبباتها، لكن لا بذاتها، بل بما أودعه الله فيها من القوى الموجبة، وهي تحت مشيئته وقدرته فإن شاء منع اقتضاءها، وإن شاء جعلها مقتضية لأحكامها، فهم - أي: أهل السنة والجماعة - يوجبون الأخذ بالأسباب ويعتقدون عدم منافاتها للتوكل؛ بل إن التوكل من أعظم الأسباب في جلب المنافع ودفع المضار، ويرون ضرورة الأخذ بالأسباب مع عدم الاعتماد عليها، ويكون التوكل - بالقلب - على الخالق مع اتباع الأسباب في ظاهر الحال فقط، والأخذ بالأسباب ثم الاعتماد على الله - عز وجل - هو ما يشير إليه قوله - عز وجل - حاكيا عن يعقوب عليه السلام: )وقال يا بني لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة وما أغني عنكم من الله من شيء إن الحكم إلا لله عليه توكلت وعليه فليتوكل المتوكلون (67)( (يوسف). وفي جانب الرزق قال تعالى: )هو الذي جعل لكم الأرض ذلــولا فامشـوا في مناكبهــا وكلـوا من رزقــه وإليــه النشور (15)( (الملك).

قال ابن القيم في "مدارج السالكين": "لا تقوم عبودية الأسباب إلا على ساق التوكل، ولا يقوم ساق التوكل إلا على قدم العبودية ". والسبب الذي أمر العبد به أمر إيجاب أو أمر استحباب هو عبادة الله وطاعته له ولرسوله، والله فرض على العباد أن يعبدوه ويتوكلوا عليه كما قال تعالى: )فاعبده وتوكل عليه( (هود: 123)، وقال: )واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلا (8) رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا (9)( (المزمل)، وقال: )فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف وأشهدوا ذوي عدل منكم وأقيموا الشهادة لله ذلكم يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر ومن يتق الله يجعل له مخرجا (2) ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدرا (3)( (الطلاق)، والمقصود أن الله لم يأمر بالتوكل فقط، بل أمر مع التوكل بعبادته وتقواه التي تتضمن فعل ما أمر به وترك ما نهى عنه. فمن ظن أنه يرضى ربه بالتوكل بدون فعل ما أمره به كان ضالا، كما أن من ظن أنه يقوم بما يرضى الله عليه بدون التوكل عليه كان ضالا، وأن من ظن أن التوكل يغني عن الأسباب المأمور بها فهو ضال، وهذا كمن ظن أنه يتوكل على ما قدر عليه من السعادة والشقاوة بدون أن يفعل ما أمره الله به، فإن كانت لأسباب مقدورة له وهو مأمور بها فعلها مع التوكل على الله كما يؤدي الفرائض وكما يجاهد العدو ويحمل السلاح ويلبس لأمة الحرب ولا يكتفي في دفع العدو بمجرد توكله دون أن يفعل ما أمر به من الجهاد؛ فالواجب على العبد أن يفعل السبب المأمور به ويتوكل على الله فيما يخرج عن قدرته مثل الذي يشق الأرض ويلقى الحب، ويتوكل على الله في إنزال المطر وإنبات الزرع ودفع المؤذيات، ومن ترك الأسباب المأمور بها فهو عاجز مفرط مذموم. قال الحسن: التوكل لا ينافي السعي في الأسباب قال تعالى: )يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم( (النساء: 71)، وقال تعالى: )وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة( (الأنفال:60).

ومن الأدلة على ارتباط التوكل بالأخذ بالأسباب من القرآن قوله تعالى: )يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم( (النساء: 71)، )وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم( (الأنفال: 60)، )فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون (10)( (الجمعة)، وقوله تعالى: )فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا واتقوا الله إن الله غفور رحيم (69)( (الأنفال)، وقوله تعالى: )فبما رحمة من الله لنت لهم( (آل عمران 159)، وقوله تعالى: )وهزي إليك بجذع النخلة( (مريم: 25)، )أينما تكونوا يدرككم الموت( (النساء 78)، )وعلمناه صنعة لبوس( (الأنبياء 80).

وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: «جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - على ناقة له، فقال: يا رسول الله، أدعها وأتوكل؟ فقال: أعقلها وتوكل».

وعن عمر - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصا وتروح بطانا». والمعنى الإجمالي للحديث: أن التوكل الصحيح هو تفويض الأمر إلى الله عز وجل والثقة بحسن النظر فيما أمر به، فلو أن المسلمين يتوكلون على الله - عز وجل - في كل شئونهم لرزقهم كالطير تماما، ولكن بعضهم يعتمد على قوته وحذره ويحلف بالباطل وكل هذا خلاف التوكل. وعن المقدام بن معديكرب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما أكل أحد طعاما قط خيرا من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود - عليه وسلم - كان يأكل من عمل يده».

وعن عمر - رضي الله عنه - قال:«كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينفق على أهله نفقة سنتهم من هذا المال، ثم يأخذ ما بقي فيجعله مجعل مال الله، فعمل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك حياته».

 ولقى عمر بن الخطاب ناسا من أهل اليمن فقال من أنتم؟ قالوا: نحن المتوكلون، فقال أنتم المتكلون، إنما المتوكل الذي يلقى حبه في الأرض ويتوكل على الله. وقوله: المتكلون، يعني على أموال الناس.

 وفي ذلك الرد البليغ على من يتركون الأسباب تقاعسا بدعوى التوكل على الله، ولو صدقوا لأحسنوا العمل.

أما التواكل فهو ترك الكسب والطمع في المخلوقين والاعتماد عليهم بالتخلي عن الأسباب التي وضعها الله - عز وجل - والانقطاع عن السعي والتقاعد عن العمل وانتظار النتائج من الخلق أو القدر، أو الاتكال على الله أن يخرق له العوائد، والتواكل انتفاء همة وعدم مروءة؛ لأنه إبطال حكمة الله التي أحكمها في الدنيا من ترتب المسببات على الأسباب.

خامسا. ضعف الاستدلال على التواكل بقصة إبراهيم عليه السلام:

إن المواقف التي استدل بها أصحاب هذه الشبهة لإثبات أن الإسلام يقر التواكل ويدعو إليه، هذه المواقف دليل ضد هؤلاء لا لهم؛ فعندما قال إبراهيم - عليه السلام - لجبريل أمين وحي السماء "أما إليك فلا" فإن هذه الكلمة دليل على شدة الإيمان ورسوخه في القلب، ورغم هذا فقد أخذ إبراهيم بالأسباب أولا، ولم يدخر وسعا لكي يهدي قومه إلى طريق الله، وعندما تعذر عليه ذلك ترك أمرهم لله، وقدم لهم دليلا عمليا على قوة الإيمان، فلم يخف من إلقائه في النار، وقبل قضاء الله بكل ثبات؛ لأن الله معه فلن يضيعه.

وبهذا يتبين أن الاستشهاد بهذه القصة على أن الإسلام أقر نزعة التواكل أو دعا إليها هو أبعد شىء عن سياقها على تقدير صحتها، فكيف وهذه القصة هي برمتها غير ثابتة عند المحدثين ونقدة الأخبار.

كذلك موقف إبراهيم - عليه السلام - مع زوجته هاجر، فعندما تركها إبراهيم هي وطفلها إسماعيل - عليه السلام - كان هذا بأمر من الله تعالى، وعندما علمت هاجر أن هذا الفعل من قبل الله تعالى، وأمر منه قالت: لن يضيعنا، ورغم هذا الإيمان الشديد منها، أخذت تسعى لكي تروي عطشها وعطش صغيرها الرضيع الذي بكى من شدة العطش، وكانت المعجزة الكبرى وهي انفجار بئر زمزم من تحت قدم الصغير؛ لتكون آية للناس إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

هذا البئر لم يتفجر إلا بعد أن أخذت هاجر بالأسباب، وبحثت عن الماء في كل مكان، وصار السعي بين الصفا والمروة من فرائض الحج لكي يتذكر الناس موقف هاجر المتوكلة على الله تعالى.

وحديث الرسول الذي يقول فيه: "لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصا، وتروح بطانا" هو حديث يبين حقيقة التوكل الصحيح، فالرسول لم يقل: توكلوا على الله فقط، ولكنه - صلى الله عليه وسلم - قال: حق توكله، والتوكل الحق يكون بطريق الأخذ بالأسباب والعمل، وترك النتائج على الله تعالى، كما أنه - صلى الله عليه وسلم - إنما أثبت الطير غدوا ورواحا، وجعل ذلك سببا في رزق الله إياها ولم يقل: إنها مكثت في ذكرها: ثم رزقها الله ما رزقها على نحو ما يريد هؤلاء أن يفهموا، وأحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الجانب كثيرة، وقد قدمنا - فيما سلف - طائفة صالحة منها.

 

الخلاصة:

·       التوكل على الله - سبحانه وتعالى - عبادة قلبية مفروضة، وهو حقيقة لا يتم الإيمان إلا بها، وقد أكدها القرآن والسنة جميعا، كما صورتها أفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - وسيرته تصويرا صادقا ترك أثره في سير الصحابة والتابعين من بعده.

·       وهؤلاء جميعا إنما وقفوا على حقيقة التوكل التي لا تعني - من أي وجه - القعود عن العمل والانقطاع عن الأخذ بالأسباب؛ اتكالا على الله - عز وجل - ورأوا أن ذلك هو التواكل الذي طالما حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم.

·       ليس في قصة إبراهيم - عليه السلام - حين ألقي في النار ما يسوغ أن يستدل به على طرح الأسباب، بل هذه القصة - تدل على ضد ذلك، وأما قصته - عليه السلام - حين ترك زوجه بواد غير ذي زرع فليس فيها ما يشهد على ترك الأسباب، بل هي من شواهد كمال توكله وركونه إلى جناب ربه سبحانه وتعالى.

السابق التالى

مقالات مرتبطة بـ الشبهات حول اسم الله (الحسيب)

  • الحسيب

    فريق عمل الموقع

    الحسيب ‫قال تعالى: (وكفى بالله حسيبًا)،  الحسيب "العليم بعباده كافي المتوكلين، المجازي لعباده بالخير والشر

    10/01/2021 1793
  • الحسيب

    الموسوعة العقدية

    قال تعالى: إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا [النساء: 86] وقال سبحانه: وَكَفَى بِاللّهِ حَسِيبًا

    03/08/2021 738
  • التعريف باسم الله (الحسيب)

    فريق عمل الموقع

    الحسيب: يجوز أن يكون من حسبت الحساب ويجوز أن يكون أحسبني الشيء إذا كفاني. وقال الشاعر: (ونحسبه إِن كَانَ

    03/08/2021 836
معرفة الله | علم وعَملIt's a beautiful day