الحديث الخامس عشر(حديث الوجد)
- قال البخاري رحمه الله: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ: أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ".
: الحكم على الحديث
متفق عليه. صحيح البخاري (16)، صحيح مسلم (43).
: أهمية الحديث
الإيمان بأن للإيمان حلاوة يجدها المؤمن في قلبه بشروط.
تحقيق قضية الوجد من: "وَجَد".
تحقيق قضية الحب والبغض وأنها ليست على الهوى.
فوائد الحديث
هذا الحديث كسابقه في إثبات لفظة شرعية بولغ في استخدامها بطرق شتى وهي لفظه "الوجد". واصطلاح الوجد عند بعض الناس له معان وضوابط وغير ذلك، ولكنا هنا نستعمله في استعماله الشرعي كما ضبطه الشرع، فنقيم معناه على مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ". هذه أسباب وشروط وعلامات، فالأخذ بهذه الأسباب يجلب حلاوة الإيمان.
- وهي شروط في حصول هذه الحلاوة.
- وأيضاً هي علامات على وجود الإيمان وحصول حلاوته في القلب.
مر معنا في الحديث السابق أن للإيمان طعماً يذاق، وهنا بيان هذا الطعم، وهو الحلاوة.
لما توسع بعض الناس في معاني وآثار الذوق والوجد، وهذا خطر، فوجود البصيرة والإلهام والذوق والوجد وغيرها ليست مسوغات شرعية لإجراء الأحكام، وإنما هي أحوال تنفع الشخص الذي حصلت له وتفيده.
وخذ هذه العبرة صريحة واضحة، ولعلك لا تجدها في مكان غير هذا: عمر رضي الله عنه
قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَقَدْ كَانَ فِيمَا قَبْلَكُمْ مِنْ الْأُمَمِ مُحَدَّثُونَ فَإِنْ يَكُ فِي أُمَّتِي أَحَدٌ فَإِنَّهُ عُمَرُ"
وقال عمر رضي الله عنه: وافقت ربي ثلاث؛ في مقام إبراهيم، وفي الحجاب، وفي أسارى بدر .
______________________
أخرجه البخاري (3689).
أخرجه البخاري (402)، ومسلم (2399).
فإن سميتم هذا وجداً وذوقاً وإلهاماً، فأين كان عقل عمر وتحديث عمر وإلهام عمر وذكاء عمر وحكمة وفطنة عمر يوم الحديبية إذ اعترض وقال ما قال؟
فلا يغترن أحد بعقله ولا بحاله ولا بعلمه ولا بشيء أبداً.
فالضابط الوحيد المحكم هو الأدلة الشرعية؛ قال الله، قال الرسول بفهم السلف رضوان الله عليهم أجمعين، وضع الذوق والوجد في مكانه الصحيح وحجمه الصحيح.
حلاوة الإيمان حلاوة حقيقية يتذوقها أهلها ويشعرون بها حقيقة لا مجازاً بشروطها وضوابطها.
"أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا". الله لا يقبل معه شريكاً في المحبة؛
قال تعالى: {وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ ٱللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ ٱللَّهِ ۖ} [البقرة: 165].
: فلا بد أن يكون الله هو الأحب دوماً، وشرط التوحيد في المحبة ثلاثة
أن تسبق محبة الله إلى قلبك كل محبة.
أن تقهر محبة الله في قلبك كل محبة، فتصبح جميع المحاب والمحبوبات خاضعة مقهورة لمحبة الله.
أن تكون جميع المحاب والحبوبات تابعة لمحبة الله ونابعة من محبة الله.
"لَا يحبُّه إِلَّا للهِ".
هذه من أسرار حلاوة الإيمان؛ أن يشعر العبد الرباني أن قلبه عبد لله في قبضة مالكه سبحانه، فلا يملك هذا القلب حباً ولا رضا إلا بالله ولله سبحانه وتعالى؛ فلا يحب إلا لله، ولا يبغض إلا في الله، ولا يعطي ولا يمنع ولا يرضى ولا يسخط إلا في الله ولله، فلا شعور لهذا القلب ولا تصرف إلا بما يرضى حبيبه ومالكه الحق الواحد الأحد سبحانه.
وهذا بخلاف من تملك قلبه الشهوات والأهواء فصار عبداً لها يحب لهواه ويبغض لهواه، فيعمل كل أعماله بهواه ولهواه.
"وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ"
هذه قضية الندم على ما فات، هو أصلها الأصيل، فإن الإنسان إذا ندم - والندم شرط من شروط صحة التوبة - إذا ندم كره أن يعود، وهذا الشرط العجيب يفوت أكثر الناس لذلك لا يشعرون بهذه الحلاوة التي يشعر بها الذي يكره أن يعود إلى ما يسخطه الله أو ما يبغضه الله ولا يرضاه.
فصاحب هذه الحلاوة يشعر بها نتيجة الحب والموالاة في الحب والبغض مع حال الندم، فإذا اجتمعت له هذه الثلاثة شعر بها - حال كونها راسخة في قلبه - وجد بها حلاوة الإيمان وحينها تحصل له السعادة التي لو علمها الملوك وأبناء الملوك لجالدوه عليها بالسيوف. والتي وصفها بعضهم: لو أن أهل الجنة في مثل هذا إنهم لفي عيش طيب.
وليحذر الرباني أن يعمل من أجل هذه الحلاوة وفيكون عمله لطلبها لا لله، وإنما يؤدي هذه الطاعات خالصة لوجه الله ولطلب مرضاته، ثم تأتيه هذه الحلاوة هبة محضة ومنة من عين جود المنن من الله عز وجل.
فاحذر لذة العبادات أن تعمل لها فتكون لذة مسمومة تؤدي إلى حبوط العمل، اعمل لله والرب شكور سيجازيك بالإحسان إحساناً، ولا تعمل لحظ نفسك وطلب شهوتك ومرادك فتكون من المحرومين.
اللهم ارزقنا إيماناً نجد حلاوته في صدورنا