شرح أسماء الله الحسنى - العليــــم
شرح أسماء الله الحسنى
(25) العليــــم
أولا / المعنى اللغوي :
العليم : من العلم وهو نقيض الجهل، وعَلِمتُ الشيء: أي عرفته وخبرته ، وعلام وعلامة إذا بالغت في وصفه بالعلم والتاء للمبالغة .
وعليم :على وزن فعيل وهو من أبنية المبالغة
ثانيا / المعنى في حق الله تعالى :
العليم سبحانه هو اسم من أسماء الله متضمن للعلم الكامل الذي لم يسبق جهل ولا يلحقه نسيـان ، وهو الذي يعلم تفاصيل الأمور ودقائق الأشياء ، وخفايا الضمير والنفوس ، ولا يعزب (لا يغيب) عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض ؛ فعلمه محيط بجميع الأشياء ظاهرها وباطنها، دقيقها وجليلها، علمٌ بما كــــان، وما هو كــائن، وما سيــكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون .
ثالثا / وروده في القرآن الكريم :
ورد اسمه العليم في القرآن 157 مرة؛ وفي هذا دليل على أهميته .. وقد قرن الله تعالى بينه وبين بعض الأسماء، منها:
اسمه الحكيــم: قال تعالى
{ قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [البقرة: 32]
.. فالعلم يؤدي إلى الحكمة، ولا يجتمع العلم مع التهور والطيش .. وعلم الله تعالى مقرونًا بالحكمة، أي: وضع كل شيءٍ في مساره .
واسمه السميع: قال تعالى
{ قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنبياء: 4]
وهو سبحانه وتعالى يسمع كل شىء حتى دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء .. لذا كان هو الأحق بالعلم جلَّ جلاله.
رابعا / تأملات في رحاب الاسم الجليل :
عالم الغيب والشهادة :
الغيب : ما غاب عنا ، والشهادة : ما نستطيع مشاهدته أو إدراكه بأحد الحواس .
والله تعالى أحاط بعلم الغيوب كلها وهو شاهد على علم الشهادة كله لهذا قال الله تعالى عن نفسه (عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال) وقال الله جل وعلا :
(ألم يعلموا أن الله يعلم سرهم ونجواهم وأن الله علام الغيوب) سورة التوبة : 78 .
، فعلم الله سبحانه وتعالى تام ، وكامل ، ومحيط بكل شيء ، لم يسبقه جهل ، ولا يلحقه نسيان
(وما كان ربك نسياً) سورة مريم : 64
(وأحاط بمالديهم وأحصى كل شيء عدداً) سورة الجن : 28.
ويقول الله سبحانه :
(إنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو وسع كل شيء علماً) سورة طه : 98
ويقول :
(قل أنزله الذي يعلم السر في السموات والأرض إنه كان غفوراً رحيماً) سورة الفرقان : 6
فما من قول ولا فعل في السر ولا في الجهر ، في السماء ولا في الأرض ، في البحر المحيط الواسع ، أو في الفضاء البعيد العالي إلاَّ يعلمه سبحانه وتعالى بتفاصيله .
وقال تعالى
( وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ) الأنعام/59
فهو سبحانه أحاط علمه بالحبة في ظلمات الأرض ، وبالورقة الساقطة فيها ، وبالرطب واليابس ومثل ذلك وأعظم منه علمه بمكاييل البحار وعدد قطر الأمطار، وما في البر من مثاقيل الجبال وعدد حبات الرمال ، كل ذلك أحاط به الله جل جلاله وتباركت أسماؤه إحاطة كاملة فـ
(لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين) سورة سبأ :3
الغيب المطلق والغيب النسبي
الغيب المطلق هو ما استأثر الله تعالى بعلمه فهو علم غائب عن الخلق كلهم – أهل السماء وأهل الأرض – ، وهذا النوع من الغيب لا يعلمه إلا الله سبحانه كما دلت على ذلك نصوص الكتاب و السنة ، فقد قال الله تعالى :
( قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) النمل/65
وقال سبحانه :
( وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ) الأنعام/59
وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم هذه المفاتيح بالأمور الخمسة التي وردت في سورة لقمان في قوله تعالى :
( إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ) الآية/34
وروى البخاري
يقول الشعراوي رحمه الله في تفسيره لهذه الآية :
وعجيب أنْ نرى من خَلْق الله مَنْ يحاول أن يستدرك على مقولة الله في هذه الغيبيات الخمس، كالذين حاولوا أنْ يتنبأوا بموعد قيام الساعة، وقد كذبوا جميعاً، لإن الحق سبحانه أخفى موعد الساعة لكي نستشعرها دائماً، وفي كل وقت، حتى الذين لا يؤمنون بها ويشكُّون فيها، وإذا ما استشعرها الناس عملوا لها، واستعدوا لأهوالها، كما أخفى الله عن الإنسان ساعة موته ومكان أجله، وجعل الموت يدور على العباد على غير قاعدة.
فمنهم مَنْ يموت بعد دقائق من مولده، ومنهم مَنْ يعمر مئات السنين، كما أنه سبحانه لم يجعل للموت مقدمات من مرض أو غيره، فكم من مريض يُعافى، وصحيح يموت، كما يقولون: كيف مريضكم؟ قال: سليمنا مات،
إذن: أخفى الله القيامة وأخفى الموت؛ لنظل على ذُكْر له نتوقعه في كل لحظة، فنعمل له، ولنتوقع دائماً أننا سنلقى الله، فنعد للأمر عُدته؛ لأن مَنْ مات فقد قامت قيامته؛ لأنه انقطع عمله، ففي إبهام موعد القيامة وساعة الموت عَيْن البيان لكل منهما، فالإبهام أشاعه في كل وقت.
وقوله: { وَيُنَزِّلُ ٱلْغَيْثَ.. } [لقمان: 34] وهذا أيضاً، ومع تقدُّم العلوم حاول البعض التنبؤ به بناء على حسابات دقيقة لسرعة الرياح ودرجة الحرارة..إلخ، وربما صَحَّتْ حساباتهم، لكن فاتهم أن الله أقداراً في الكون تحدث ولا تدخل في حساباتهم، فكثيراً ما نُفَاجأ بتغيُّر درجة الحرارة أو اتجاه الريح، فتنقلب كل حساباتنا.
لذلك من عجائب الخَلْق أنك كلما اقتربتَ من الشمس وهي مصدر الحرارة تقِلُّ درجة الحرارة، وكلما ابتعدت عنها زادت درجة الحرارة، إذن: المسألة ليست روتينية، إنما هي قدرة لله سبحانه، والله يجمع لك الأسباب ليثبت لك طلاقة قدرته التي تقول للشيء: كُنْ فيكون.
وقوله تعالى: { وَيَعْلَمُ مَا فِي ٱلأَرْحَامِ.. } [لقمان: 34] هذه أيضاً من مفاتح الغيب، وستظل كذلك مهما تقدمت العلوم، ومها ادَّعى الخَلْق أنهم يعلمون ما في الأرحام، والذي أحدث إشكالاً في هذه المسألة الآن الأجهزة الحديثة التي استطاعوا بها رؤية الجنين، وتحديد نوعه أذكر أم أنثى، فهذه الخطوة العلمية أحدثتْ بلبلة عند بعض الناس، فتوهموا أن الأطباء يعلمون ما في الأرحام، وبناءً عليه ظنوا أن هذه المسألة لم تَعُدْ من مفاتح الغيب التي استأثر الله بها.
ونقول: أنتم بسلطان العلم علمتم ما في الأرحام بعد أن تكوَّن ووضحتْ معالمه، واكتملتْ خِلْقته، أما الخالق – عز وجل – فيعلم ما في الأرحام قبل أنْ تحمل الأم به، ألم يُبشِّر الله تعالى نبيه زكريا عليه السلام بولده يحيى قبل أن تحمل فيه أمه؟ ونحن لا نعلم هذا الغيب بذواتنا، إنما بما علّمنا الله، فالطبيب الذي يُخبرك بنوع الجنين لا يعلم الغيب، إنما مُعلَّم غيب.
والله – تبارك وتعالى – يكشف لبعض الخلق بعض الغيبيات، ومن ذلك ما كان من الصِّدِّيق أبي بكر – رضي الله عنه – حين أوصى ابنته عائشة – رضي الله عنها – قبل أن يموت وقال لها: يا عائشة إنما هما أخواك وأختاك، فتعجبت عائشة حيث لم يكن لها من الإخوة سوى محمد وعبد الرحمن، ومن الأخوات أسماء، لكن كان الصِّديق في هذا الوقت متزوجاً من بنت خارجة، وكانت حاملاً وبعد موته ولدتْ له بنتاً، فهل تقول: إن الصِّدِّيق كان يعلم الغيب؟ لا، إنما أُعِلم من الله. إذن: الممنوع هنا العلم الذاتي أن تعلم بذاتك.
ثم إن الطبيب يعلم الآن نوع الجنين، إما من صورة الأشعة أو التحاليل الي يُجريها على عينة الجنين، وهذا لا يُعتبر علماً للغيب، و (الشطارة) أن تجلس المرأة الحامل أمامك وتقول لها: أنت إنْ شاء الله ستلدين كذا أو كذا، وهذا لا يحدث أبداً.
ثم يقول سبحانه:
{ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً.. } [لقمان: 34]
الإنسان يعمل، إما لدنياه، وإما لأُخْراه، فالمعنى إما تكسب من الخير المادي لذاتك لتعيش، وإن كان من مسألة التكليف، فالنفس إما تعمل الخير أو الشر، الحسنة أو السيئة، والإنسان في حياته عُرضَة للتغيُّر.
وقوله تعالى:
{ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ.. } [لقمان: 34]
وهذه المسألة حدث فيها إشكال؛ ” لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر الأنصار أنه سيموت بالمدينة حينما وزع الغنائم على الناس جميعاً ما عدا الأنصار؛ لذلك غضبوا ووجدوا في أنفسهم شيئاً؛ لأن رسول الله حرمهم، لكن سيدنا رسول الله جمعهم وتلطَّف معهم في الحديث واعترف لهم بالفضل فقال: والله لو قلتم أني جئت مطروداً فآويتموني فأنتم صادقون، وفقيراً فأغنيتموني فأنتم صادقون.. لكن الأ تحبون أن يرجع الناس بالشاه والبعير، وترجعون أنتم برسول الله ” ، وقال في مناسبة أخرى ” المحيا محياكم، والممات مماتكم “.
إذن: نُبِّئ رسول الله أنه سيموت بالمدينة، والله يقول: { وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ.
. } [لقمان: 34] نقول: الأرض منها عام ومنها خاصّ، فأرض المدينة شيء عام، نعم سيموت بالمدينة، لكن في أيِّ بقعة منها، وفي أي حجرة من حجرات زوجاته، إذن: إذا علمتَ الأرض العامة، فإن الأرض الخاصة ما زالت مجهولة لا يعلمها أحد.
يُروى أن أبا جعفر المنصور الخليفة العباسي كان يحب الحياة ويحرص عليها، ويخاف الموت، وكان يستشير في ذلك المنجِّمين والعرافين، فأراد الله أنْ يقطع عليه هذه المسألة، فأراه في المنام أن يداً تخرج من البحر وتمتد إليه، وهي مُفرَّجة الأصابع هكذا، فأمر بإحضار مَنْ يُعبِّر له هذه الرؤيا، فكان المتفائل منهم، أو الذي يبغي نفاقه يقول له: هي خمس سنوات وآخرون قالوا: خمسة أشهر، أو خمسة أيام أو دقائق.
إلى أن انتهى الأمر عند أبي حنيفة رضي الله عنه فقال له: إنما يريد الله أن يقول لك: هي خمسة لا يعلمها إلا الله، وهي:
{ إِنَّ ٱللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ ٱلسَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ ٱلْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي ٱلأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ.. } [لقمان: 34]
وما دامت هذه المسائل كلها مجهولة لا يعلمها أحد، فمن المناسب أن يكون ختام الآية { إِنَّ ٱللَّهَ عَلَيمٌ خَبِيرٌ } [لقمان: 34]
إذن: الحق سبحانه يريد أنْ يُريح خَلْقه من الفكر في هذه المسائل الخمس، وكل ما يجب أن نعلمه أن المقادير تجري بأمر الله لحكمة أرادها الله، وأنها إلى أجل مسمى، وأن العلم بها لا يُقدِّم ولا يُؤخِّر، بالله ماذا يحدث لو علمت ميعاد موتك؟ لا شيء أكثر من أنك ستعيش نَكِداً حزيناً طول الوقت لا تجد للحياة لذة.
لذلك أخفى الله عنَّّا هذه المسألة لنُقبِل على الله بثقتنا في مجريات قدر الله فينا.ا.هـ بشيء من الاختصار
وقفة مع قوله تعالى (أتى أمر الله فلا تستعجلوه) النحل1
كيف يقول الحق سبحانه وتعالى (أتى) أي حدث باستخدام الزمن الماضي، ثم يقول لا تستعجلوه باستخدام الزمن المقبل، أليس هذا تناقضا؟
ويجيب الشيخ الشعراوي : لا يوجد أي تناقض لأن هذا الأمر الذي تتحدث عنه الآية الكريمة أتى في علم الله أي تقرر، وما دام قد تقرر فانه حادث بلا شك لأنه لا توجد قوة ولا قدرة تستطيع أن تمنع ما يريده الله، والله سبحانه وتعالى دائم الوجود لا تأخذه سنة ولا نوم حتى تظن أنه قد يغفل عن شيء دائم القوة والقدرة، وكل من في الكون يستمد قوته قدرته من الله سبحانه وتعالى ، وذلك ما دام الله هو القاهر فوق عباده جميعا، فمتى قال (أتى ) يكون قد حدث فعلا، أما قوله : ( فلا تستعجلوه ) أي لا تستعجلوا ظهوره وخروجه إلى دنياكم المادية، أو لا تستعجلوا ظهوره لكي يصبح مشهودا لديكم، وهكذا نرى أنه لا يوجد أي تناقض أو تضارب في قوله تعالى (أتى أمر الله فلا تستعجلوه)
الغيب النسبي:
أن يكون هذا الغائب غائبا عن بعض الخلق ، ومعلوما لخلق آخرين ، فهذا إنما يسمى غيبا بالنسبة للجاهل به ، وليس هو غيبا عن جميع الخلق ، فلا يختص الله عز وجل بعلمه ،فمثلا قد يخفى علي اسم شخص من الأشخاص أو عمله أو بلده ، لكن غيري يعلمه ، وقد يخفى علي معرفة أمر حدث في بلد من البلاد لكن غيري يعلمه …وهكذا
تحدي القرآن بعلم الله للغيب دلالة على صدق الرسول :
وعلى سبيل المثال : أبو لهب : أخبر الله تعالى في القرآن الكريم أنه سيموت كافراً وكم من شخص كان كارهاً للإسلام أسلم بعد ذلك لكن الله أخبر على سبيل التحدي وآية على صدق نبيه أخبر أن أبا لهب (سيصلى نارا ذات لهب) نزلت سورة المسد قبل وفاة أبي لهب بعشر سنوات ، وكان أمامه 365 × 10 = 3650 فرصة لإثبات أن هذا الكتاب وهم، ولكن ما هذا التحدي؟ لم يسلم أبو لهب ولو بالتظاهروالكذب ، وظلت الآيات تتلى حتى اليوم ، كيف يكون الرسول واثقاً خلال عشر سنوات أن ما لديه حق، لو لم يكن يعلم أنه وحي من الله؟
مثال ثان : (سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها) سيقول أيضا إخبار عن أمر سيقع في المستقبل ولو فكر هؤلاء الكفار لما قالوا ما أخبر به الله ولكن تماما مثل موقف أبى لهب لم يخطر ببالهم ذلك بل جاء موقفهم ليشهد على علم الله وقدرته وأن غيبه لابد أن ينفذ كما أراد الله .
مثال آخر: (الم غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين، لله الأمر من قبل ومن بعد، ويومئذ يفرح المؤمنون)
وهذا تحدى إلهي وحقيقة تاريخية وبشارة ، وبالتالي كان لدى المؤمنين إيمان ويقين شديد أن وعد الله حق وقدره قائم لا محالة ، من غير الله يستطيع أن يخبر بنتيجة معركة بعد تسع سنوات ! بل من ويضمن عدم حدوث صلح بين الفرس والروم ! من غير الله ؟!
علم الله لأفعال العباد:
ومن متعلقات صفة العلم علم الله بأفعال العباد ، وما ينبني على ذلك من استشعار المسلم مراقبة الله لأعماله كلها الظاهرة والباطنة ، وباعثاً له على تجويد العمل ، والإحسان في القصد ، يقول سبحانه وتعالى :(واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه واعلموا أن غفور حليم) سورة البقرة : 235 ، ويسوق الحديث عن العلم الإلهي المحيط مشفوعاً بما يترتب عليه من إحصاءٍ للأعمال ، ومن محاسبة عليها ، ومن مجازاة بالنعيم والجحيم (وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء) سورة البقرة : 284
(قل إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه يعلمه الله ويعلم مافي السموات وما في الأرض والله على كل شيء قدير * يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً ويحذركم الله نفسه والله رؤوف بالعباد) سورة آل عمران : 29 و 30.
وتأتي الآيات الكثيرة في كتاب الله ؛ لتذكر بأن ّالله عالم بالعباد ، وآجالهم وأرزاقهم وأحوالهم وشقائهم وسعادتهم ، ومن يكون منهم من أهل الجنة ، ومن يكون منهم من أهل النار قبل أن يخلقهم ويخلق السموات والأرض . فهو سبحانه وتعالى عليمُ بما كان وما هو كائن وما سيكونُ ، لم يَزَل عالِما ولا يَزال عالما بما كان وما يكون ، ولا يخفى عليه خافية في الأَرض ولا في السماء ، أَحاط عِلمُه بجميع الأَشياء باطِنِها وظاهرها ، دقِيقها وجليلها .
مراتب العلم الإلهي ، وهو أنواع :
أولهـا :علمه بالشيء قبل كونه ، وهو سر الله في خلقه ، اختص الله به عن عباده .
وهذه المرتبة من العلم هي علم التقدير ومفتاح ما سيصير ، ومن هم أهل الجنة ومن هم أهل السعير ؟ فكل أمور الغيب قدرها الله في الأزل ومفتاحها عنده وحده ولم يزل ، كما قال تعالى :
(إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير) [لقمان:34]
وقال سبحانه : (قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلأالله وما يشعرون أيان يبعثون) [النمل:65] .
ثانيـها: علمه بالشيء وهو في اللوح المحفوظ بعد كتابته وقبل إنفاذ أمره ومشيئته .
فالله عز وجل كتب مقادير الخلائق في اللوح المحفوظ قبل أن يخلقهم بخمسين ألف سنة ، والمخلوقات في اللوح قبل إنشائها كلمات ، وتنفيذ ما في اللوح من أحكام تضمنتها الكلمات مرهون بمشيئة الله في تحديد الأوقات التي تناسب أنواع الابتلاء في خلقه ، وكل ذلك عن علمه بما في اللوح من حساب وتقدير ، وكيف ومتى يتم الإبداع والتصوير ؟ كما قال تعالى :
(ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والأرض إن ذلك في كتاب إن ذلك على الله يسير) [الحج:70]
وقال تعالى: ( ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها) [الحديد:23] .
ثالثـها : علمه بالشيء حال كونه وتنفيذه ووقت خلقه وتصنيعه ، كما قال :
(الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد وكل شيء عنده بمقدار عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال) [الرعد:8]
وقال تعالى :
(يعلم ما يلح في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو الرحيم الغفور) [سبأ:2]
رابعـها : علمه بالشيء بعد كونه وتخليقه وإحاطته بالفعل بعد كسبه وتحقيقه .
فالله عز وجل بعد أن ذكر مراتب العلم السابقة في قوله تعالى :
(وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين) [الأنعام:59]
، ذكر بعدها المرتبة الأخيرة فقال :
(وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار ثم يبعثكم فيه ليقضى أجل مسمى ثم إليه مرجعكم ثم ينبئكم بما كنتم تعملون) [الأنعام:60]
، وقال أيضا :
(قد علمنا ما تنقص الأرض منهم وعندنا كتاب حفيظ) [قّ:4]
وقال :
(ألم يعلموا أن الله يعلم سرهم ونجواهم وأن الله علام الغيوب) [التوبة:78]
سبحـــان العالم بكل شيء، الذي لكمال علمه يعلم ما بين أيدي الخلائق وما خلفهم؛ فلا تسقط ورقة إلا بعلمه، ولا تتحرك ذرة إلا بإذنه، يعلم دبيب الخواطر في القلوب حيث لا يطلِّعُ عليها المَلَك، ويعلم ما سيكون منها حيث لا يطلِّعُ عليه القلب ..وشتـــان بين علمٍ مقيد محدود وعلمٍ مُطلق بلا حدود .. فسبحانه وتعالى في كمال علمه وطلاقة وصفه، فعلمه فوق علم كل ذي علم .. كما قال الله تعالى
{.. نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مِّن نَّشَاء وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ } [يوسف: 76]
إلا لمن تطهر باطنه وظاهره وصلح قوله وعلمه