التَّحْريفُ الكَنَائِسي الرَّابِع
التَّحْريفُ الكَنَائِسي الرَّابِع
وفي سَنَة 431م حَدَّثتْ طَامَّةٌ أُخْرى سادسة على دينِ الْمَسِيح، إذْ خَرَج نَسْطُور، وهُو بَطْريرك كَنِيسة القُسْطَنطِينيَّة، خَرَجَ بِعَقِيدَةٍ مَفَادُهَا أنَّ الْمَسِيحَ عِيسَى ابنَ مَرْيمَ لهُ طَبيعَتانِ: إلـٰهيَّةٌ وبَشَريَّةٌ، (لاهُوت ونَاسُوت)، وأَنَّهُمَا مُنْفَصِلَتَانِ عنْ بَعْضِهما.
ويَتْبع ذَلِك أنَّ مَرْيم مَا وَلَدت الإلـٰه عِيْسَى، بَلْ ولَدَتِ الْبَشَرَ عِيسى!
فَهِي أمُّ الإِنْسَان عِيسَى، ولَيْسَت أمَّ الإلـٰه عِيسَى!
فَحَصَل إِثْرَ هَذَا خِلافٌ شَديدٌ بَينَ كِبارِ رِجَالِ الدِّين الْمَسِيحيِّ، فَقَرَرُوا عَقْد مَجْمعٍ للْنَظَر في عَقِيدَة الْبَطْريرك نَسْطُور، فعُـقِد مَجمعٌ في تِلْك السَّنة في مَدِينة إِفْسس في تُركِيَا، وهُو الـمُسمَّى مَجْمَع إِفْسس الأوَّل، حَضَرَه مِائَتَا بَطْريرك وأُسْقُف، وقَرَّرُوا أنَّ الْمَسِيح لهُ طَبيعَتَانِ، إلـٰهيَّةٌ وبَشريَّةٌ، ولَكِنَّ تِلْك الطَّبيعتَينِ مُتَّحِدتَانِ ومُنْدَمجتَانِ، ولَيْستَا مُنْفصلتينِ كَمَا يَعْتقدُ نَسْطُور، وبِنَاءً عَليه تَكُون مَرْيمُ هِي والدةَ الإلـٰهِ عِيْسى كَمَا هِي والدة الْبَشَر عِيسَى.
ولَمَّا أَصَرَّ نَسْطُور عَلَى عَقِيدَتِه طَرَدُوه مِن مَنْصِب الْبَطْريرك ولَعَنُوه.
ولَكِنَّ عَقِيدَةَ نَسْطور انْتَشَرت في سُوريَّا والْعِرَاق وفَارِس، وسُمِّي أتْبَاع هَذِه الْعَقِيدة: النَّسْطُوريين أو النَّسَاطِرة، نِسْبةً إلى الْبَطْريرك نَسْطور، الَّذِي مَاتَ في حَوالي عَام 450م(1).
تَعليقٌ عَلى عَقِيدةِ (الطَّبيعَتَينِ) الَّتي أَتَى بِهَا نَسْطُور
هَذِه الْعَقِيدة الَّتي أَتَى بِهَا نَسطورُ عَقيدةٌ خرَافِيَّةٌ، لأَنَّهَا مُعْتمدةٌ أَصلًا عَلى عَقِيدةٍ خُرافِيَّةٍ أُخْرى، وهِي عقيدة أَنَّ اللهَ تَجَسَّد في الْمَسِيح، والَّتي أَتَى بِهَا بُولِس، وقَدْ تَقَدَّم الْكَلامُ عَلَيْها وبَيانُ بُطْلانها، يضاف إلى ذلك هذه الوجوه الأَرْبَعة لبيان بطلانها:
الأوَّل: عَلَى افْتِرَاض أنَّ اللهَ تجَسَّد في الْمَسِيح (وحَاشَاه مِنْ ذَلِك) فَمَا الَّذِي يَمْنَع مِن أَنَّ تَكُون طَبِيعةُ الْمَسِيح وَاحِدةً، وطَبيعةُ اللهِ وَاحِدةً؟!
وبِنَاءً عَلى مَاذَا يُقَرِّر نَسْطُور أنَّ الْجَسَد واحدٌ والطَّبِيعة مُخْتَلِفَة؟
هَلْ هُو ربٌّ يَعْلم الْغَيب؟
إنَّ مَسْأَلة الطَّبِيعة أو الطَّبِيعَتينِ تُعْتبر مِنَ الْغَيبِ الَّذِي لا تَرَاه الْعُيون.
وهَذَا يُوضِّح دَوْر رِجَالِ الدِّين والْبَطَارِكة في تَحْريفِ دِينِ الْمَسِيح بِإِدْخَال عُقُولِهم في الأُمُور الْغَيْبيَّة والتَّكَلُّف في فَهْمِها، فَضَلُّوا وأَضَلُّوا منْ يَسْتَمع لَهُم، تَعَالى اللهُ عَنْ إِفْكِهم وافْتِرَائِهم عُلُوًّا كَبيرًا.
الْوَجْه الثَّانِي: أنَّه يَلْزَم مِنْ هَذِه الْمَقُولة أنَّ اللَّاهُوت يَعْتَمد عَلَى النَّاسُوت، وهَذَا بَاطِلٌ، إذْ كَيفَ يَعْتَمِد الرَّبُّ عَلى الْبَشَر؟!
الْوجْه الثَّالِث: أنَّ قَوْلَهم بِاتِّصَاف الْمَسِيح بِطَبيعَتينِ في جَسَدٍ وَاحِدٍ مُتَناقِضٌ جِدًّا، فَالذَّات الْواحِدَة لا يُمْكِن أنْ تَكُون مُتَّصِفَةً بِصِفَاتِ الرَّبِّ وصِفَات الْبَشَر في آنٍ وَاحدٍ، لأَنَّهُمَا عَلى طَرَفي نَقِيضٍ، فَالرَّبُّ لهُ صِفاتُ الْكَمالِ، والْبَشرُ لَهُم صِفَاتُ النَّقصِ، فَلا يُمْكِن أنْ يَكُون الرَّبُّ عَالِمًا بِكُلِّ شَيءٍ ولَيسَ عَالِمًا بِكُلِّ شَيءٍ في آنٍ وَاحدٍ.
الْوجهُ الرَّابِع: ومما يدل على تَهَافُت هَذِه الدَّعْوى (دَعْوى تَقْسِيم الْمَسِيح إِلى لاهُوت ونَاسُوت) أَنَّهَا دَعْـوى جَدِيدَةٌ، لمْ يُـعَـلِّمها الْمَسِيحُ بَني إسْرَائِيل، ولوْ كَانَتْ صَحِيحةً لَعَلَّمَهُم إيَّاهَا قَطْعًا، لأنَّ هَذَا شَرفٌ لهُ لوْ كَانَت حقًّا، وهِي مِنَ الأُمُور الَّتي تَتَوافَر الْـهِـمَم عَلى نَقْلِهَا لِيَعْرِفَها النَّاس، ولا يُطبِقُوا عَلى الْجَهل بِـهَا إلى أن تُعلم بعد أربعة قرون! فَهِي إذَنْ عَقِيدةٌ مُبْتَكرةٌ مِن عِنْدِ الْبَشَر بَعْد رَفْعِ الْمَسِيح بِنَحْو أَرْبعة قُرونٍ، ولمْ تَكُن مَعْروفةً مِن قَبلُ.
المراجع
- انظر كتاب: «محاضرات في النصرانية»، لمحمد أبو زهرة، (ص 126 – 127)، وكتاب: «دائرة معارف القرن العشرين»، للأستاذ محمد فريد وجدي