مقدمة في مواعظ الإمام الشافعي
الحمد لله رب العالمين، حمداً طيباً مباركاً فيه ، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد:
قد يستغرب القارئ الكريم أن يكون الإمام الشافعي واحداً من أعلام سلسلة "معالم في التربية والدعوة" والتي موضوعها المواعظ والنصائح.
وقد عرف الشافعي إماماً لمذهب فقهي، فعندما يذكر تتبادر إلى الذهن الأحكام الفقهية في العبادات والمعاملات. . وتأصيل المسائل، وتدوين الأصول. . الأمر الذي شغل وقت الإمام بكامله. . ومع ذلك فهو الواعظ البليغ.
وقد كان للشعر دور في حياته، وشعره يغطي مساحة واسعة من نظرته إلى المجتمع، كما يحمل من الحكم الشيء الكثير، وكذا فيه من النصائح والتوجيه ما ليس بالقليل.
وكذلك كان للحكمة والموعظة دورها أيضاً، فالحكمة خلاصة تجربة، فهي ترفد الموعظة في مهمتها. . والنصح والتوجيه بعض واجبات العالم، فما بالنا إذا كان إماماً في العلم والفقه.
ويمتاز الإمام الشافعي بأن مواعظه تارة تكون نثراً وتارة أخرى تكون شعراً، ونتمني لو كان الإمام قد جمع شعره، حتى لا يدخل فيه ما ليس منه، ولكنه لم يفعل، رحمه الله.
هذا وقد جعلت هذه المواعظ قسمين. الثاني منهما ضمنته من أشعاره ما يدخل ضمن موضوع الكتاب. سائلاً الله تعالى أن يجعل أعمالنا خالصة له، إنه نعم المسؤول.
الإمام الشافعي
هو محمد بن إدريس الشافعي، يرجع نسبه إلى هاشم بن عبدالمطلب، فهو ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولد بغزة سنة خمسين ومائة، ومات أبوه وهو صغير، فحملته أمه إلى مكة وهو ابن سنتين، فنشأ بها، وقرأ القرآن وهو ابن سبع سنين، وحفظ "الموطأ" وهو ابن عشر.
نشأ - رحمه الله - في حجر أمه، في قلة عيش، وضيق حال، وكان في صباه يجالس العلماء ويكتب ما يستفيده في العظام ونحوها، لعجزه عن الورق.
وتفقه في مكة على مسلم بن خالد الزنجي، ونزل في شعب الخيف منها.
ثم قدم المدينة فلزم الإمام مالكاً رحمه الله، وقرأ عليه "الموطأ" حفظاً، فأعجبه قراءته، وقال له: اتق الله، فإنه سيكون لك شأن، وكان سن الشافعي حين أتى مالكاً ثلاث عشرة سنة.
ثم رحل إلى اليمن حين تولى عمه القضاء بها، واشتهر بها.
ثم رحل إلى العراق، وجدَّ في الاشتغال بالعلم، وناظر محمد بن الحسن وغيره، ونشر علم الحديث، وأقام مذهب أهله، ونصر السنة، واستخرج الأحكام منها. ورجع كثير من العلماء عن مذاهب كانوا عليها إلى مذهبه.
ثم خرج إلى مصر آخر سنة تسع وتسعين ومائة، وصنف كتبه الجديدة، ورحل الناس إليه من سائر الأقطار.
وقد برع في جميع العلوم.
قال الربيع بن سليمان: كان الشافعي - رحمه الله تعالى - يجلس في حلقته إذا صلى الصبح، فيجيئه أهل القرآن، فإذا طلعت الشمس قاموا، وجاء أهل الحديث، فيسألونه تفسيره ومعانيه، فإذا إرتفعت الشمس، قاموا، فاستوت الحلقة للمذاكرة والنظر، فإذا إرتفع الضحى تفرقوا، وجاء أهل العربية والعروض والنحو والشعر، فلا يزالون إلى قرب انتصاف النهار ثم ينصرف.
وقال محمد بن الحكم: ما رأيت مثل الشافعي، كان أصحاب الحديث يجيئون إليه ويعرضون عليه غوامض علم الحديث، وكان يوقفهم على أسرار لم يقفوا عليها، فيقومون وهم متعجبون منه، وأصحاب الفقه المرافقون والخالفون، لا يقومون إلا وهم مذعنون له، وأصحاب الأدب يعرضون عليه الشعر فيبين لهم معانيه. . .
وهو أول من دون علم أصول الفقه، فكتب في ذلك "الرسالة".
وكان شاعراً ولكنه لم يهتم لهذا الجانب وقال في ذلك:
ولولا الشعر بالعلماء يزري
لكنت اليوم أشهر من لبيد
ومع ذلك فقد ترك شعراً جيداً.
وقد حذق الرمي حتى كان يصيب من كل عشرة تسعة.
وكان ذا عبادة وورع
قال الربيع المرادي: كان الشافعي يختم القرآن في شهر رمضان ستين مرة.
وقال الربيع بن سليمان: قال الشافعي: ما شبعت منذ ستة عشرة سنة إلا شبعة طرحتها، لأن الشبع يثقل البدن، ويقسي القلب، ويزيل الفطنة، ويجلب النوم ويضعف صاحبه عن العبادة.
وكان - رحمه الله - من أسخى الناس بما يجد، وقصص سخائه مشهورة.
ومناقبه جمة، وقد ألفت كتب في مناقبه.
توفي بمصر آخر يوم من رجب سنة أربع ومائتين، عن أربع وخمسين سنة.
ومذهب الشافعي أحد المذاهب الأربعة التي انتشرت في العالم الإسلامي وهو أول من دون علم أصول الفقه.
شهادات
أقوال العلماء الأعلام في عالم تعد شهادات.
دونها كل الشهادات العلمية. وهي دلالة على مكانة المشهود له، وبخاصة إذا كانت من أصحاب العلم والفضل، ولا يعرف الفضل إلا ذووه.
وأذكر بعض الأقوال التي قيلت في حق الإمام الشافعي، استكمالاً للترجمة السابقة الموجزة,
قال عبدالله بن أحمد بن حنبل: قلت لأبي: أي رجل كان الشافعي، فإني سمعتك تكثر من الدعاء له؟ قال: يا بني، كان كالشمس للدنيا، وكالعافية للناس، فهل لهذين من خلف، أو منهما عوض؟
وقال أحمد: كان الشافعي من أفصح الناس.
وقال: ما أحد مسَّ بيده محبرة ولا قلما؛ إلا وللشافعي في رقبته منه، ولولا الشافعي ما عرفنا فقه الحديث، وكان الفقه قفلاً على أهله، حتى فتحه الله بالشافعي.وقال محمد بن الحسن: إن تكلم أصحاب الحديث يوماً، فبلسان الشافعي.
قال إسحاق بن راهويه: لقيني أحمد بن حنبل بمكة، فقال: تعال أريك رجلاً لم تر عيناك مثله، فأراني الشافعي. قال: فتناظرا في الحديث، فلم أر أعلم منه، ثم تناظرا في الفقه فلم أر أفقه منه، ثم تناظرا في القرآن، فلم أر أقرأ منه، ثم تناظرا في اللغة، فوجدته بيت اللغة، وما رأت عيناي مثله قط.
وقال أبو ثور الكلبي: ما رأيت مثل الشافعي، ولا رأى مثل نفسه.
وقال الحميدي: سيد علماء زمانه الشافعي.
وقال الفضل بن دكين: ما رأينا ولا سمعنا أكمل عقلاً، ولا أحضر فهماً، ولا أجمع علماً من الشافعي.
وقال أبو ثور: من زعم أنه رأى مثل محمد بن إدريس في علمه، وفصاحته، ومعرفته، وثباته وتمكنه، فقد كذب، كان منقطع القرين في حياته، فلما مضى لسبيله لم يعتض منه.وقال الإمام أحمد: إن الله يقيض للناس في رأس كل مئة من يعلمهم السنن، وينفي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الكذب، قال: فنظرنا، فإذا في رأس المائة عمر بن عبدالعزيز، وفي رأس المائتين الشافعي.
اكتفي بهذه الشهادات وغيرها كثير. .