كيف أجعل همي إرضاء الله، ولا التفت لما يقول الناس؟
إن أعظم ما يقصده العبد المؤمن مرضاة رب العالمين .
قال الله :( وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) التوبة/72 .
وروى البخاري في "صحيحه" (6549) ، ومسلم في "صحيحه" (2829) ، من حديث أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:( إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَقُولُ لِأَهْلِ الجَنَّةِ: يَا أَهْلَ الجَنَّةِ؟ فَيَقُولُونَ: لَبَّيْكَ رَبَّنَا وَسَعْدَيْكَ ، فَيَقُولُ: هَلْ رَضِيتُمْ؟ فَيَقُولُونَ: وَمَا لَنَا لاَ نَرْضَى وَقَدْ أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ ، فَيَقُولُ: أَنَا أُعْطِيكُمْ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ ، قَالُوا: يَا رَبِّ ، وَأَيُّ شَيْءٍ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُ: أُحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي ، فَلاَ أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أَبَدًا ).
وعنوان حياة المؤمن أنه يتلمس مرضاة الله وحده لا شريك الله وإن سخط الناس ، وعلامة المنافقين حرصهم على مرضاة الخلق وإن سخط رب العالمين .
قال الله في شأن المنافقين :( يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ ).التوبة/62.
وإن مما يعين العبد على أن يتلمس مرضاة الله وحده ما يلي :
أولا : أن يعرف العبد ربه ، فيوقن أن الأمر كله بيده ، وأنه وحده من يدبر الأمر ، وأنه وحده الخافض الرافع ، وحده من يعز ومن يذل ، لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع ، وأن كلَّ الناس لا يملكون له ولا لأنفسهم نفعا ولا ضرا ، ولا موتا ولا حياة ولا أي شيء .
فإن أيقن العبد بذلك تعلق قلبه بربه ، لإيمانه أن الناس لا ينفعوه إلا بإذن ربه ، ولا يضروه إلا بإذنه وحده .
يقول النبي صلى الله عليه وسلم :( وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلاَّ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ ، وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلاَّ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ ).
أخرجه الترمذي في "سننه" (2516) ، وصححه الشيخ الألباني في "السلسلة الصحيحة" (5/497).
ثانيا : أن يوقن العبد أن محبة الناس له ورضاهم عنه بإذن ربه ومولاه ، فإن هو أرضى ربه ألقى محبته في قلوب عباده المؤمنين .
فقد أخرج الترمذي في "سننه" (3267) ، من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه ، قال : قَامَ رَجُلٌ فَقَالَ:" يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ حَمْدِي زَيْنٌ وَإِنَّ ذَمِّي شَيْنٌ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (ذَاكَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ) .
والحديث صححه الشيخ الألباني في "صحيح الترمذي" (2605)
الله وحده من إذا أثنى على عبد ومدحه زانه ، وإذا سخط على عبد وذمه شانه ، أما من سواه من الناس فلا يملكون من ذلك شيئا إلا بإذنه .
وقد جاء في الحديث أن الله هو من يضع حب العبد أو بغضه في قلوب الخلق .
أخرج البخاري في "صحيحه" (3209)، ومسلم في "صحيحه" (2637) ، من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:( إِنَّ اللهَ إِذَا أَحَبَّ عَبْدًا دَعَا جِبْرِيلَ فَقَالَ: إِنِّي أُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبَّهُ ، قَالَ: فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ ، ثُمَّ يُنَادِي فِي السَّمَاءِ فَيَقُولُ: إِنَّ اللهَ يُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبُّوهُ ، فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ ، قَالَ ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي الْأَرْضِ ، وَإِذَا أَبْغَضَ عَبْدًا دَعَا جِبْرِيلَ فَيَقُولُ: إِنِّي أُبْغِضُ فُلَانًا فَأَبْغِضْهُ ، قَالَ فَيُبْغِضُهُ جِبْرِيلُ ، ثُمَّ يُنَادِي فِي أَهْلِ السَّمَاءِ إِنَّ اللهَ يُبْغِضُ فُلَانًا فَأَبْغِضُوهُ ، قَالَ: فَيُبْغِضُونَهُ ، ثُمَّ تُوضَعُ لَهُ الْبَغْضَاءُ فِي الْأَرْضِ).
ثالثا : أن يوقن العبد أن التفات قلبه لمرضاة الناس دون رب العالمين خذلان ، يعود صاحبه مذموما لا مادح له ، مخذولا لا ناصر له ، وأنه إن تلمس مراضي الله وحده كفاه الله الناس .
قال الله :(لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا). الإسراء/22.
وروى ابن حبان في "صحيحه" (277) ، من حديث عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم قال:( مَنْ أَرْضَى اللَّهَ بِسَخَطِ النَّاسِ كَفَاهُ اللَّهُ ، وَمَنْ أَسْخَطَ اللَّهَ بِرِضَا النَّاسِ وَكَلَهُ اللَّهُ إلى الناس ).
والحديث صححه الشيخ الألباني في "السلسلة الصحيحة" (2311) .
وانظر إلى كعب بن مالك رضي الله عنه كيف كان همه الصدق ومرضاة الله وحده ، لإيمانه أن الله سيكفيه إن صدق ، وأنه إن كان همه الخروج من سخط الناس بالكذب ؛ فإن الله يوشك أن يُسخط عليه الناس .
يحكي كعب رضي الله في قصة توبته ، يقول للنبي صلى الله عليه وسلم :( إِنِّي وَاللَّهِ لَوْ جَلَسْتُ عِنْدَ غَيْرِكَ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا ، لَرَأَيْتُ أَنْ سَأَخْرُجُ مِنْ سَخَطِهِ بِعُذْرٍ ، وَلَقَدْ أُعْطِيتُ جَدَلًا ، وَلَكِنِّي وَاللَّهِ ، لَقَدْ عَلِمْتُ لَئِنْ حَدَّثْتُكَ اليَوْمَ حَدِيثَ كَذِبٍ تَرْضَى بِهِ عَنِّي ، لَيُوشِكَنَّ اللَّهُ أَنْ يُسْخِطَكَ عَلَيَّ ، وَلَئِنْ حَدَّثْتُكَ حَدِيثَ صِدْقٍ ، تَجِدُ عَلَيَّ فِيهِ ، إِنِّي لَأَرْجُو فِيهِ عَفْوَ اللَّهِ ، لاَ وَاللَّهِ، مَا كَانَ لِي مِنْ عُذْرٍ ، وَاللَّهِ مَا كُنْتُ قَطُّ أَقْوَى ، وَلاَ أَيْسَرَ مِنِّي حِينَ تَخَلَّفْتُ عَنْكَ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَمَّا هَذَا فَقَدْ صَدَقَ، فَقُمْ حَتَّى يَقْضِيَ اللَّهُ فِيكَ).
أخرجه البخاري في "صحيحه" (4418) ، ومسلم في "صحيحه" (2769) .
رابعا : أن تعلم أنه ليس إلى مرضاة الناس من سبيل ، فإن الإنسان الأصل فيه الظلم والجهل ، وإرضاء الناس غاية لا تُدرك ، فإنهم لم يرضوا عن ربهم أفيرضون عنك أنت ؟!
أخرج البيهقي في "الزهد الكبير" (180) بإسناد صحيح ، عن الحسن البصري أنه قيل له :" إن الناس يأتون مجلسك ليأخذوا سقط كلامك فيجدون الوقيعة فيك ، فقال : هون عليك فإني أطمعت نفسي في جوار الله ، فطمعت ، وأطمعت نفسي في الجنان فطمعت ، وأطمعت نفسي في الحور العين ، فطمعت ، وأطمعت نفسي في السلامة من الناس ، فلم أجد إلى ذلك سبيلا ، إني لما رأيت الناس لا يرضون عن خالقهم علمت أنهم لا يرضون عن مخلوق مثلهم" .
وقد قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ ليونس بن عبد الأعلى:" يَا أَبَا مُوسَى لَوْ جَهَدْتَ كُلَّ الْجَهْدِ عَلَى أَنْ تُرْضِيَ النَّاسَ كُلَّهُمْ ، فَلَا سَبِيلَ لَهُ ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَأَخْلِصْ عَمَلَكَ وَنِيَّتَكَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ".
أخرجه البيهقي في "شعب الإيمان" (6518) .
فليكن همُّ العبد مرضاة ربه وحده ، فإن رضي فحسبك به .
وليكن شعار حياتك ، ودأبك مع رب العالمين:
فَلَيْتَكَ تَحْلُو، وَالْحَيَاةُ مَرِيرَةٌ ... وَلَيْتَكَ تَرْضَى وَالْأَنَامُ غِضَابُ
وَلَيْتَ الَّذِي بَيْنِي وَبَيْنَكَ عَامِرٌ ... وَبَيْنِي وَبَيْنَ الْعَالَمِينَ خَرَابُ
إِذَا صَحَّ مِنْكَ الْوُدُّ فَالْكُلُّ هَيِّنٌ .... وَكُلُّ الَّذِي فَوْقَ التُّرَابِ تُرَابُ
وأما الكتب ، فلا نعلم كتابا مؤلفا في هذا الموضوع خاصة ، لكن نوصي السائل وجميع المسلمين بالتعرف على الله أكثر ، فكلما عرف العبد ربه كان همه مرضاة ربه فحسب ، وما ضره سخط الناس .
ومن الكتب الجيدة في ذلك كتاب "النهج الأسمى في شرح أسماء الله الحسنى" ، لمؤلفه الدكتور محمد الحمود النجدي .
ونوصي كذلك بكثرة مطالعة كتب ابن رجب الحنبلي وابن القيم ، فكلامهم في هذا الباب من أنفع ما يكون .
والله أعلم .