وحدانية الله جل جلاله

وحدانية الله جل جلاله


د. عبدالله بن محمد آل يحيى الغامدي

قد دلَّ الشرع، والفطرة، والحس، والعقل، على وحدانية الله، وعلى تفرده بالخلق والرزق، وأنه وحده المستحق للعبادة

لقد دلَّ الشرع، والفطرة، والحس، والعقل، على وحدانية الله، وعلى تفرده بالخلق والرزق، وأنه وحده المستحق للعبادة.

 دلالة الفطرة على وحدانية الله والإيمان به:

الفطرة في اللغة: هي الخِلْقة، قال ابن منظور: «وفَطَر الله الخلق يفطرهم: خلقهم، وبدأهم» ([1]).

وأما في الشرع: فهي الإسلام، على القول الراجح، كما رجح ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم رحمهما الله تعالى.

فالفطرة من أعظم البواعث على التدين، وأدلة الشرع نصَّت على أن الإنسان نفسه مفطور على الإقرار بالخالق، والعبودية له.

قال ابن القيم رحمه الله: «وذكروا عن عكرمة، ومجاهد، والحسن، وإبراهيم، والضحاك،

وقتادة في قوله عز وجل

{فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30)}

[الروم: 30]

، قالوا: {فِطْرَةَ اللَّهِ}: دين الإسلام (لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ): قالوا: لدين الله» ([2]).

فكل مخلوق قد فُطر على الإيمان بخالقه، وأنه عز وجل رب كل شيء وخالقه من غير سبق تفكير أو تعليم.

ولا ينصرف عن مقتضى هذه الفطرة إلا من طرأ على قلبه ما يصرفه([3]).

قال النبي r: «ما من مولودٍ إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهوِّدانه، أو ينصِّرانه، أو يمجسانه» . وفي رواية: «إلا على هذه الملة» وفي رواية: «إلا على الملة» ([4]).

وفي حديث عياض بن حمار رضي الله عنه قال: قال رسول الله r: «يقول الله تعالى في الحديث القدسي: (وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم)» ([5]).

ثم إن الإنسان مفطور على اللجوء إلى ربه تبارك وتعالى عند الشدائد، فإذا ما وقع الإنسان أي إنسان حتى الكافر الملحد في شدة، أو أحدق به خطر؛ فإن الخيالاتِ والأوهامَ تتطاير من ذهنه، ويبقى ما فُطرِ عليه؛ ليصيح بأعلى صوته، ومن قرارة نفسه، وعميق قلبه، مناديًا ربه؛ لِيُفَرِّج كربته وهمه، ويلجأ إليه وحده دون سواه.

وصدق الله تعالى إذ يقول: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ (65)} [العنكبوت: 65].

وليس المراد بأنه يولد على الفطرة؛ أنه يولد عالمًا بأمور الإسلام؛ فالله سبحانه وتعالى: يقول: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا [النحل: 78].

وليس المراد أيضًا أنه يولد ساذجًا لا يعرف شركًا ولا توحيدًا؛ لأن الرسول r قال: «إلا ويولد على الملة» وفي رواية: «على هذه الملة».

بل المراد: أن كل مولود يولد على محبته لفاطره، وإقراره له بربوبيته، وادعائه له بالعبودية، فلو خُلِّي وعدمَ المعارض لم يعدل عن ذلك إلى غيره، كما أنه يولد على محبة ما يلائم بدنه من الأغذية، والأشربة، فيشتهي اللبن الذي يناسبه ويغذيه ([6]).

ولذلك قال r: «فأبواه يهوِّدانه، أو ينصِّرانه، أو يمجِّسانه».

ولم يقل يأسلمانه؛ لأنه باقٍ على الأصل، فاعتناق غير الإسلام يعد خروجًا عن الأصل والقاعدةِ بأسباب خارجة.

فكل مولود إذًا على وجه الأرض يولد على الفطرة، وهي دين الإسلام؛ فالمولود يولد مقرًّا بخالقه، محبًّا له، متوجهًا إليه.

فإذا بقي على هذه الفطرة فهو مسلم على الأصل، ولا يحتاج إلى تجديد الدخول في الإسلام إذا بلغ وعقل.

وأما إذا نشأ بين أبوين غير مسلمين، واعتنق دينهما الباطل، أو كان معتنقًا أي دين غير الإسلام كان واجبًا عليه أن يتخلى عن دينه السابق، ويدخل في دين الإسلام؛ فيشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، ثم يبدأ بتعلم ما يقيم به شعائر دينه من إقامة الصلاة ونحو ذلك.

وهكذا يتبيَّن أن الإسلام هو الفطرة التي فطر اللهُ الناسَ عليها، وأن الإنسان مفطورٌ على الإقرار بالخالق، والعبودية له؛ فهذا هو التدين، وذلك باعثه؛ وهذا مقتضى ما دلَّت عليه النصوص صراحة.

وللفطرة فوائد عديدة، منها:

أولًا: أن هذه الفطرة غرزت في النفس البشرية التدين والتعبد لله تعالى.

فإذا لم يهتد الإنسان إلى الله عز وجل فإنه يُعبّدِ نفسه لأي معبود آخر، ليشبع بذلك نهمته إلى التدين، وذلك كمن استبد به الجوع فإنه إذا لم يجد الطعام الطيب الذي يناسبه؛ فإنه يتناول كل ما يمكن أكله، ولو كان خبيثًا ليسد به جوعته.

وهذا ما يفسر لنا وجود التدين عند عموم البشر وقد يكون الدين والمعبود في كثير من الأحيان باطلًا.

ثانيا: إن هذه الفطرة جعلت في جبلة الإنسان قبول العبودية والانسجام مع لوازمها، وهذا من الأمور المهمة للإنسان؛ لأن كل ما لا يتفق مع الفطرة فإن النفس تنفر منه ولا تستجيب لمتطلباته.

ثالثًا: إن هذه الفطرة مرجحة للحق، فإذا تعرف الإنسان على دينين حق وباطل، فإن الفطرة تميز بينهما وتميل إلى الحق، بل يقع ذلك في قرارة النفس ويتيقن القلب منه، فإما أن يعلن ذلك ويلتزم به، أو لا يستجيب له بسبب هوى، أو خوف، أو إلف وتقليد ونحو ذلك من الصوارف عن الحق، كما قال عز وجل عن فرعون وقومه: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل: 14] .

رابعًا: إن هذه الفطرة تهب للمهتدي يقينًا بالحق الذي هو عليه وإن لم يكن عنده من الأدلة النظرية ما يهبه هذا اليقين، وهذا يفسر لنا والله أعلم عدم ترك المسلم لدينه رغبة عنه وما ذلك إلا لتناسبه مع فطرته، فيعطيه ذلك يقينًا بأنه الحق، وكذلك من اهتدى إلى الإسلام من ذوي الأديان الأخرى الباطلة، فإنه يتمسك به تمسك الغريق بحبل النجاة، وما ذلك إلا لتيقنه من أن هذا الدين هو الحق، لتناسبه وانسجامه مع الفطرة، والله أعلم ([7]).

المراجع

  1.  ابن منظور، «لسان العرب»، ط3، 5/56.
  2.  ابن القيِّم، «شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل»، د. ط، ص 572 – 573، وابن تيمية، «درء تعارض العقل والنقل»، 8 / 376.
  3.  ابن عثيمين، «رسائل في العقيدة»، د. ط، ص 11، والخلف، «دراسات في الأديان اليهودية والنصرانية»، ط4، ص 27.
  4.  أخرجه البخاري في «صحيحه»، كتاب الجنائز، باب إذا أسلم الصبي فمات هل يصلَّى عليه وهل يعرض على الصبي الإسلام، 2/94، حديث رقم (1358)، ومسلم في «صحيحه»، كتاب القدر، باب معنى كل مولود يولد على الفطرة وحكم موت أطفال الكفار وأطفال المسلمين، 4/2047، حديث رقم (2658).
  5.  أخرجه مسلم في «صحيحه»، كتاب «الجنة وصفة نعيمها وأهلها»، باب الصفات التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنة وأهل النار، 4/ 21997، حديث رقم (2865).
  6.  ابن القيِّم، «شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل»، د. ط، ص 578 – 579.
  7.  الخلف، «دراسات في الأديان اليهودية والنصرانية»، ط4، ص 30، 31.



السابق التالى

مقالات مرتبطة بـ وحدانية الله جل جلاله

  • استدلالات النصارى على التثليث

    فريق عمل الموقع

    ليس للنصارى على التثليث ما يستحق أن يسمَّى دليلا؛ إذ إن ما ذكروه يدل على أنهم لفَّقوا كلاماً زعموا أنه دليلٌ، فمن

    25/01/2010 5110
  • الحقيقة الأولى الله جل جلاله

    محمد الغزالي

      هذا الاسم الكريم عَلَم على الذات المقدسة التي نؤمن بها ونعمل لها، ونعرف أن منها حياتنا واليها مصيرنا. والله

    28/02/2010 5171
  • إخلاص العمل لله جل جلاله

    الشيخ محمد مختار الشنقيطي

    أول قاعدة في صنائع المعروف وأساسها وأعظمها والتي يبارك الله بها: إخلاص العمل لله جل جلاله، فأول ما ينبغي على العبد

    17/09/2013 4833
معرفة الله | علم وعَملIt's a beautiful day