نفحات قرآنية.. في سورة الأنعام (1)
قال تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ ﴾ [الأنعام: 2].
أي: هو الذي خلق آدم عليه الصلاة والسلام من طين، ثم تعهدكم برعايته في مراحل خلقكم.
وقوله: ﴿ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا ﴾، الأجل هو عبارة عن الوقت المضروب لانقضاء الأمد، وأجل الإنسان هو الوقت المضروب لانتهاء عمره.
والمعنى: أن الله قدر لعباده أجلين:
الأول: تنتهي عنده حياتهم بعد أن عاشوا زمنا معينًا مقدرًا، إذا لم يستعجل نفسه، بأن يقتل نفسه بانتحار وغيره، وهذا ما يسمى بالعمر الاخترامي.
والثاني: يمتد من وقت موتهم إلى أن يبعثهم الله من قبورهم عند انتهاء عمر الدنيا ليحاسبهم على أعمالهم.
• • • •
قال تعالى: ﴿ وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ ﴾ [الأنعام: 70].
قوله: ﴿ وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ ﴾، أي: ذكِّر الناس بهذا القرآن وما ينفعهم قبل أن تهلك نفوسهم بما كسبت من الذنوب والمعاصي.
وقوله: ﴿ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا ﴾، أي: الذين أُهلكوا بسبب ذنوبهم فلا حجة لهم ولهم عذاب أليم على كفرهم بالله تعالى.
• • • •
قال تعالى: ﴿ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِير ﴾ [الأنعام: 73]
قال المفسرون:
أي: خلقهما بالحق الذي اقتضته المشيئة الإلهية، وليس عبثًا، وقالوا: خلقهما للدلالة على قدرته، وليُعْمَل فيهما بطاعته، وخلقهما ليبتلي عباده، ثم: يجازي كلًّا بعمله، فيجازي المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته، وذلك ما علمنا من الحكمة، وربما لله حِكَمٌ أخرى لم نَعْلَم بها، ولم تصل إليها أفكارنا.
قال الدكتور إبراهيم النابلسي: لن تستطيع أن تدرك كل حِكَمِ الله أو علمه؛ إلا إذا كان علمك كعلمه.
قلت: جزاه الله خيرًا فقد أراحني من أشياء كثيرة أزعجتني وأعياني الوصول إلى حِكَمِهَا؛ سواءً في حكمة الخلق والقدر؛ فالأمر لله أولًا وآخرًا.
• • • •
قال تعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ * فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [الأنعام: 74 - 79].
هذه الآيات وردت في إبراهيم عليه الصلاة والسلام، ومعلوم أنه عليه الصلاة والسلام لم يكن شاكًّا في إلهية الله، ولا يدل فعله على أنه يبحث عن الحق؛ فهو عالم عارف للحق، ولكن قومه كانوا يعبدون هذه الكواكب فجاراهم بقوله، وهو يريد أن يثبت لهم أن آلهتهم التي يعبدونها وهي الكواكب أنها تغيب، وأن الذي يغيب لا يصح أن يكون إلهًا، وأن الذي يستحق أن يُعبد هو الذي خلقها وخلق الكون، وهو الذي لا يأفل ولا يغيب وهو الله جلَّ وعلا.
• • • •
قال تعالى: ﴿ فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [الأنعام: 125].
وقوله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا ﴾ [النساء: 40]، وفي الحديث القدسي: "ياعبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرمًا...إلخ" [جزء من حديث أخرجه مسلم برقم (2577)، عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه].
ومن هذه الآية وهذا الحديث يكون تفسير آية الأنعام: ﴿ فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾:
أي: فمن طلب الهداية من الله فإن الله يوفقه ويشرح صدره للإسلام، ومن يُرد الاستمرار على الضلال ويصر على البقاء كافرًا يَطبع الله على قلبه، ويجعل صدره ضيقًا حرجًا كأنما يصّعد في السماء.