خلق الكون
- وصف خلق السماوات والأرض في القرآن الكريم هو في الأساس رسائل من الله تعالى وليس سردًا لحقائق أو وقائع تاريخية. إنما هو يهدف إلى تحفيز القارئ والمستمع على تأمل ما في الكون من عظمة وقوة وسعة ونظام، ثم التوقف والتفكر في الخالق وراء ذلك كله. مثال على ذلك قوله عز وجل:
﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ.﴾
(آل عمران 3 :190)
- يتخلل وصف خلق السماوات الأرض آيات تمجيد الله تعالى وقدرته، مع ذكر جحود الإنسان وكفرانه لنعم ربه، ثم حث البشر على التأمل، بفضول وشغف، في خلق أنفسهم وخلق الكون من حولهم. مثال على ذلك قوله عز وجل:
﴿أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ. وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ. وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ. وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ.﴾
(الغاشية 88: 17-20)
- يصرح القرآن بوضوح تام أن الكون كان له بداية، وأن الله عز وجل هو مسبب تلك البداية. فالله المقتدر إذا أراد أن يخلق شيئًا – أي يوجده من العدم – فقط يقول له "كن" فيكون (ولا يحتاج إلى مادة يصنعه بها؛ بل يكفيه أمره). يقول سبحانه وتعالى:
﴿بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ.﴾
(البقرة 2: 117)
- يشير القرآن الكريم في وصفه لخلق السماوات والأرض بأن الكون كله بدأ ككتلة ابتدائية واحدة، ثم حدث الفَتْق (الشق) لتلك الكتلة كما يسميه القرآن الكريم: أو كما يسميه العلم "الانفجار العظيم (Big Bang)" وملخص تلك النظرية أن مادة الكون كلها كانت متجمعة في نقطة واحدة كثيفة انفجرت إلى الخارج.
﴿أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ.﴾
(الأنبياء 21 :30)
- ﴿كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا﴾ الرتق في اللغة: الضم والالتحام، وهو ضد الفتق: الفصل بين شيئين متصلين. وهاتان الكلمتان تُستخدَمان مع النسيج، فعندما يُمزَّق النسيج ويُباعَد بين خيوطه؛ يُقال: (فُتِق الثوب)، والرَّتْق هو العكس، أي جَمْع وضَمُّ هذا النسيج. فمعنى قوله تعالى ﴿رَتْقًا﴾ أي الشيء الملتحم الملتصق؛ يعني أن السماوات والأرض كانتا شيئًا واحدًا ملتصقتين، أو ملتحمتين، ولا فضاء بينهما، ﴿فَفَتَقْنَاهُمَا﴾، ففصل الله بينهما.
- الانفجار لا ينتج إلا الفوضى والدمار، ولا يمكن أن ينتج كونًا منظمًا تسير حركته وفق قوانين محكمة. من وجهة نظر القرآن في بداية الخلق، كل ما في الكون، بما في ذلك السماوات والأرض، كان شيئًا واحدًا متصلًا بعضه ببعض، متلاصقًا بلا فاصل، ثم تمت عملية الفصل والتفكك كما عبَّر عنها القرآن بدقة مستخدمًا لفظة "الفتق"، والتي تحمل دلالات الدقة والعناية والإرادة التي يجب أن تتوافر عند شق وحل الغرز. فالفتق هنا يدل على عملية محكمة ومنظمة، وليس مجرد حدث عشوائي، وهذا ما يتوافق مع الكون المصمم بذكاء والمعد بعناية الذي تلا ذلك. فالخياط حينما يقوم بفتق قطعة القماش ينفذ ذلك بكل عناية، بينما الانفجار يشتت المادة ويبعثرها دون نظام.
- يذكر القرآن الكريم أن الكون في أحد مراحل بداية خلقه كان كتلة غازية تفككت بأمر الله وتكوَّن منها السماوات والأرض:من الواضح أن الدخان المذكور في الآية يتوافق مع الفرضية السديمية أو فرضية السديم (Nebular hypothesis) التي طرحها العلم الحديث، والتي تقول أن الشمس والأرض وبقية النظام الشمسي قد تكون من سديم أو سحاب دوَّار من غاز وغبار.
﴿ثُمَّ اسْتَوَىٰ إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ.﴾
(فصلت 41: 11)
- في آية أخرى يخبر القرآن الكريم أن الكون بُنِيَ بإحكام وقوة، وأنه ليس ثابتًا ولكنه دائم الحركة وفي حالة توسع مستمر، فيقول تعالى:وما دام الكون يتمدد منذ نشأته وحتى الآن، فهذا يعني أن الكون بأسره، في لحظة ما في الماضي، بدأ هذا التمدد من نقطة مفردة صغيرة (singularity or single point) – أي كان في بدايته مضمومًا؛ أو رتقًا وفق التعبير القرآني. بمعنى آخر، عند لحظة تكوين وإنشاء معينة وقعت في الماضي، كان لهذا الكون نقطة بداية من العدم (نقطة بداية من الصفر)؛ مما يستلزم وجود مبدئ ومكون ومنشئ له.
﴿وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ.﴾
(الذاريات 51: 47)
- في عام 1929، لاحظ عالم الفلك الأميركي إدوين هابل أثناء مراقبته حركة المجرات بالتليسكوب أنها تتباعد باستمرار عن بعضها البعض وعن الأرض، بسرعات متزايدة مع الوقت، ومتناسبة طرديًّا مع المسافة بينها وبين الأرض. ملاحظة إدوين هابل أدت إلى أهم اكتشاف فلكي في القرن العشرين: الكون في حالة توسع وتمدد مستمر. كما شكلت ملاحظاته عن التوسع الكوني الأساس لنظرية الانفجار العظيم من نقطة مفردة، والتي بدورها تستلزم نشأة الكون من لا شيء. (بما أن أجزاء هذا الكون تتباعد باستمرار فلا بد أنها كانت في نقطة زمنية ما بالماضي كتلة واحدة متجمعة؛ فعند الرجوع الى الوراء زمنيًّا وعكس عملية التوسع الكوني؛ فإن الجسيمات تتقارب فيما بينها شيئًا فشيئًا وتنكمش حتى تعود إلى نقطة الصفر).
- القرآن كتاب هداية ودلالات ومنهج حياة، وليس كتاب علوم. تأتي هذه الهداية بطرق مختلفة منها معرفة أسرار الكون والإنسان، وهي معرفة لا حدود لها، ففي كل زمان يكشف الله تعالى للبشر عن حقائق علمية مدهشة (في ذات الإنسان وتركيب جسمه وأجهزته وفي أقطار السماوات والأرض من الشمس والقمر والنجوم والليل والنهار والرياح والأمطار والصواعق والنبات والحيوان والجبال والأشجار وغيرها). وسيستمر ظهور هذه الآيات على مر الليالي والأيام لهداية البشرية حتى تنتهي الدنيا، مصداقًا لقوله تعالى:
﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ.﴾
(فصلت 41 :53)
- يطلق القرآن دعوة «السير في الأرض» لمعرفة كيفية بدء الخلق، وذلك في قوله تعالى: ففي هذه الآية إشارة واضحة إلى أن أسرار بدء الخلق مختزنة في الأرض؛ في الصخور والمتحجرات والنيازك وأعماق البحار. فهناك دلائل وإشارات على بدء الخلق لا تأتي المعرفة بها إلا بالسير في الأرض والبحث والتنقيب فيها.
﴿قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.﴾
(العنكبوت 29: 20)
الطبيعة: كتاب الله المنظور
يرى الإسلام هذا الكون كتابًا شاسعًا، مفتوحًا، مليئًا بالحقائق والعجائب؛ هذا الكتاب مثله مثل القرآن (كتاب الله المسطور)، مطلوب من الإنسان استكشافه والتعمق في أسراره لمعرفة الله وإدراك عظمته وكمال قدرته. هناك في القرآن الكثير من الآيات تتحدث عن الكون، والأجرام، والجبال، والبحار، والكائنات، وخلق الإنسان كشهادة على قدرة الخالق العظيم، وعلمه غير المحدود، وحكمته المطلقة. هي أيضًا دليل على المصدر الإلهي للقرآن؛ فبعض نصوصه تشير إلى حقائق علمية مبهرة اكتُشِفت مؤخرًا، ولم تكن البشرية تعرف عنها شيئًا منذ أربعة عشر قرنًا وقت نزول القرآن.
﴿كَلَّا لَئِن لَّمْ يَنتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ.﴾
(العلق 96: 15-16)
وصف القرآن الكريم منطقة الناصية أو مقدم الرأس، دون بقية الأعضاء، بأنها كاذبة خاطئة، ولم يصف الشخص ذاته، ثم حذره بالكف عن هذا السلوك. وقد أثبتت الدراسات الحديثة أن القشرة الأمامية الجبهية (Pre-Frontal Cortex) والتي تقع مباشرة خلف الجبهة، في الجزء الأمامي من المخ، ترتبط بالسلوك والقدرة على الخداع والكذب.
2-منذ أكثر من ألف وأربعمئة عام مضت، تصف الآيات القرآنية 6-7 من سورة النبأ الجبال بأنها أوتاد:
﴿أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا.﴾
(النبأ 78: 6-7)
وتحدد الآية 15 من سورة النحل دور الجبال كمثبتات للأرض:
﴿وَأَلْقَىٰ فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ.﴾
(النحل 16: 15)
3-تبين الآية 14 من سورة المؤمنون مراحل التطور الجنيني قبل العلم الحديث بأكثر من ألف وأربعمئة عام؛ حيث يقول الله تعالى:
﴿ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ.﴾
(المؤمنون 23: 14)
تأملات
«سبب الكون لابد أنه كان غير مادي. إذا كان السبب ماديًّا/طبيعيًّا، فسيخضع لنفس قوانين الاضمحلال التي تحكم الكون. لذلك، السبب وراء بداية الكون لابد أنه كان خارقًا للطبيعة، أي غير مادي أو روحي. سبب يقع خارج المكان والمادة والزمان. سبب بهذه الكيفية لن يخضع لقوانين الاضمحلال والفناء؛ ومن ثم لن يكون له بداية. معنى ذلك أن هذا السبب لابد من كونه روحيًّا، أبديًّا«. عالم الخليقة د. دون باتن (Dr. Don Batten)