الرسالة الثانية : القرآن منهاج الغرباء
هذه وظيفتكم أختصرها لكم في كلمات:
إن الانتساب لرسالة القرآن تَلَقِّيّاً وبلاغاً، معناه: الدخول في ابتلاءات القرآن، من منـزلة التحمل إلى منـزلة الأداء!
إنها تَلَقٍّ صادقٌ لكلمات الله، وتعليمُ القلبِ طريقةَ الاشتعال بلهيبها، والصبر على حَرِّ جمرها؛ حتى يصير مشكاةً بلوريةً تفيض بنور الله..! ثم تعليمُ ذلك للآخرين، بتذويقهم شيئاً فشيئاً لذةَ المعاناة لنور الوحي، ومتعة الحياة بمكابدة القرآن..!
أيها الأحبةُ الْمَشُوقُونَ بحب الله!..
إن النورَ طاقةٌ لاهبةٌ، شديدةُ الصعق كالبرق! نعم؛ لكنَّ القلوبَ الْمَشُوقَةَ بوميضه الوهاج حَقّاً، تشتعل به فَتَائِلُهَا اشتعالاً، وتلتهبُ به مصابيحُها التهاباً، ثم لا تحترق!
أيها الأحبة المكابدون! إن الكلام المجرد لا يكفي لبلاغ رسالات القرآن، بل أَمِدُّوا قلوبَ الآخرين بتيارٍ من شرايينكم المشتعلة! تستضئ أرواحهم كما استضاءت أرواحكم! فتغمر الأنوارُ البلادَ والعباد..!
أيها الأحبة المكابدون! إن اللغة عاجزة عن وصف النور..! ولكنَّ الوسيلة الوحيدة لوصفه، والتعريف به، إنما هي قَدْحُ زُرِّ كهربائه، وإشعال فتيل مصباحه! وإنما قلوبكم هي مصابيحه، وشرايينكم هي مجرى تياره! فأشعلوا نَارَهُ بقلوبكم، واقْدَحُوا فتيله بنفوسكم! والتهبوا به التهاباً حتى تكتووا بناره، وتجدوا حَرَّ تياره! فإذا صافحتم الناسَ بحقائق القرآن بعدها؛ وجدوا حَرَّ النور في أيديكم، وتلقوا لهيبه من أنفاسكم، ووقعت عليهم كلمات الله من ألسنتكم وقوعَ النيازك المشتعلة! وذاقوا حقيقةَ مكابدة القرآن كما ذقتم..! فآنئذ - وآنئذ فقط - يدرك الناس معنى رسالتكم!
أيها الأحبة المكابدون! إن حُمَّالَ هذه الحقائق الإيمانية في الأمة اليومَ هم القليل.. وإن الحامل لجمرة واحدة من جمر آية واحدة، يكتوي بلهيبها، ويستهدي بنورها؛ لأنفع لنفسه وللناس – بإذن الله – من مئات الحفاظ للقرآن كاملاً، الذين استظهروه من غير شعور منهم بحرارته، ولا معاناة للهيبه، ولا مشاهدة لجماله وجلاله!
فلا يحقرن نفسَه صاحبُ الآية والآيتين والثلاث... إذا كان حقا ممن قبض على جمرهن بيد غير مرتشعة! وارتقى بقرائتهن إلى منازل الثريا، نجما ينير شبراً من الأرض في ظلمات هذا العصر العصيب!
أيها الأحبة المكابدون..!
يا أيها السالكون إلى الله في زمن الغربة!
إن قلة السائرين على الطريق لا ينبغي أن تثني عزم الصادقين، ولا أن تثبط المؤمن عن الانخراط الإيماني في حمل رسالات القرآن وبلاغها.. بل ربما كانت القلة أحيانا دليلا على صواب المنهج! قال تعالى:
﴿وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ﴾
(الواقعة:14)
وقال عز وجل في حق نوح عليه السلام:
﴿وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ!﴾
(هود: 40)
وقال سبحانه في حق موسى:
﴿فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ!﴾
(يونس: 83)
وقد كان الأنبياء - من قَبْلُ - ليس يتبع الواحدَ منهم إلا الرجل والرجلان والثلاثة، أو النفر القليل! فعن ابن عباس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
(قَالَ عُرِضَتْ عَلَيَّ الأُمَمُ، فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ وَمَعَهُ الرُّهَيْطُ، وَالنَّبِيَّ وَمَعَهُ الرَّجُلُ وَالرَّجُلانِ، وَالنَّبِيَّ لَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ!)
( رواه مسلم)
وفي حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال:
(عُرِضَتْ عَلَيَّ الأَنْبِيَاءُ اللَّيْلَةَ بِأُمَمِهَا، فَجَعَلَ النَّبِيُّ يَمُرُّ وَمَعَهُ الثَّلاَثَةُ، وَالنَّبِيُّ وَمَعَهُ الْعِصَابَةُ، وَالنَّبِيُّ وَمَعَهُ النَّفَرُ، وَالنَّبِيُّ لَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ! )
(رواه أحمد، والحاكم وصححه، وابن حبان، والطبراني في الكبير. وصححه الشيخ شعيب الأرناؤوط في تحقيق المسند، والألباني في الإسراء والمعراج)
وكذلك كان بدء دعوة محمد صلى الله عليه وسلم، ثم صار بَعْدُ أكثرَ الأنبياء أتباعاً.
ولنا اليقين أن القِلَّةَ إذا تحققت بولاية اللهِ صَنَعَ اللهُ بها الأعاجيب! وإن الله تعالى إذا نظر بعين الرضا إلى عبد من عباده، أو إلى ثلة قليلة منهم - ولو كانوا معدودين على رؤوس الأصابع – جعل منهم مفاتيح للخير، شهداء على الناس! وقد نُقِلَ عن الفضيل بن عياض حكمةٌ من أبلغ الحكم فيما نحن فيه! قال رحمه الله: (اِلْزَمْ طُرُقَ الْهُدَى وَلاَ يَضُرُّكَ قِلَّةُ السَّالِكِينَ! وإيَّاكَ وَطُرُقَ الضَّلاَلَةِ، وَلاَ تَغْتَرَّ بِكَثْرَةِ الْهَالِكِينَ!)(الأذكار للنووي: 160)
وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيما يرويه عن ربه:
(وَإِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ، وَإِنَّهُمْ أَتَتْهُمْ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ! وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ لَهُمْ! وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بِي مَا لَمْ أُنْزِلْ بِهِ سُلْطَاناً! وَإِنَّ اللهَ نَظَرَ إِلَى أَهْلِ الأَرْضِ فَمَقَتَهُمْ، عَرَبَهُمْ وَعَجَمَهُمْ! إِلاَّ بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ! وَقَالَ: إِنَّمَا بَعَثْتُكَ لِأَبْتَلِيَكَ وَأَبْتَلِيَ بِكَ! وَأَنْزَلْتُ عَلَيْكَ كِتَاباً لاَ يَغْسِلُهُ الْمَاءُ، تَقْرَؤُهُ نَائِماً وَيَقْظَانَ!)
(جزء حديث رواه مسلم، عن عياض بن حمار المجاشعي رضي الله عنه مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم)
والشاهد عندنا في هذا الحديث: هو نظر الرحمن بعين الرضا إلى تلك البقية القليلة - بل النادرة - من موحدي أهل الكتاب، واستثناؤهم من مقت الله وغضبه! ومعلوم أن بضعة رجال من النصارى الموحدين، ممن بقي على دين عيسى - عليه السلام – من غير تحريف ولا تبديل؛ قد فروا بدينهم - خوفاً من اضطهاد الكنيسة البيزنطية، القائمة على عقيدة التثليث،
وعبادة الصليب - وتفرغوا لعبادة الله بعيداً في أطراف الجزيرة العربية(لك أن تنظر قصة إسلام سلمان الفارسي رضي الله عنه، وهي بطولها في مسند أحمد، وفيها قوله رضي الله عنه لمعلمه الراهب عندما حضرته الوفاة، وما بقي على الأرض أحد سواه، ممن هو على دين عيسى الحق، فقال له سلمان: (إِلَى مَنْ تُوصِي بِي؟ وَمَا تَأْمُرُنِي؟ قَالَ: أَيْ بُنَيَّ! وَاللهِ مَا أَعْلَمُهُ أَصْبَحَ عَلَى مَا كُنَّا عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ آمُرُكَ أَنْ تَأْتِيَهُ! وَلَكِنَّهُ قَدْ أَظَلَّكَ زَمَانُ نَبِيٍّ، هُوَ مَبْعُوثٌ بِدِينِ إِبْرَاهِيمَ، يَخْرُجُ بِأَرْضِ الْعَرَبِ..) الحديث. رواه أحمد، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة. ).
فالتفتَ إليهم الرحمن بعنايته ورحمته، وذكرهم بخير في محكم كتابه، قرآناً يُتْلَى إلى يوم القيامة! وفي ذلك ما فيه من التشريف والتكريم! قال جل جلاله:
﴿وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ. وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ!﴾
(المائدة: 82-83)
وعلى ذلك الوزان جرى ذكر أصحاب الكهف قبلهم، وإنما هم سبعة شبان، في سواد عظيم من الكفار!
فهل من شباب يستجيبون لنداء الله؟ ويسلكون بمسلك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيدخلون في ابتلاءات القرآن المجيد؛ تخلقاً بأخلاقه، وتحققاً بمنهاجه، وتلقيا لرسالاته، ثم بلاغها إلى سواد الأمة عبر مجالس القرآن ومدارساته، تدبراً وتفكراً!
من يبادر إلى إنقاذ نفسه، مع من وفقه الله إلى إصلاحهم من المسلمين؟ فيعود بهم من متاهات الشرود إلى هُدَى القرآن القويم، ويتحلل من شكوى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ربه:
﴿وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِيَ اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا!﴾
(الفرقان: 30)
إن تأسيس "مجالس القرآن"، والسلوك إلى الله عبر مَدَارِجِهَا الربانية، واتخاذها مدارسَ لِتَلَقِّي حقائق الإيمان، وأخلاق القرآن، والترقي بمعارج العلم بالله والمعرفة به؛ لهو المفتاح الرئيس للولوج إلى مدرسة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والسير على خطاه في تجديد الدين، ومنهاج الدعوة إلى رب العالمين!
ولعلك تَتَقَالُّ هذا العمل إلى جانب ما ترى في الساحة الإسلامية من كثرة المناهج والبرامج والخطط، والهياكل والأشكال والألقاب، مع غفلة شبه تامة عن موارد القرآن! فتتساءل: أيمكن أن يكون كل هذا العجيج والضجيج على غير صواب في المنهج؟ ولكننا نقول لك كلمة واحدة: إن القرآن وبياناته النبوية في هذا الدين هي كل شيء! نعم هي كل شيء! وإننا نعيش اليوم أزمة خفية في تحديد مفهوم "الدين!" تترتب عنها أزمة أخرى في تحديد مسلكه ومنهاج تجديده!
ومن قَبْلُ تَقَالَّ رجالٌ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عبادتَه لربه، فرغبوا في الزيادة على مقادير سنته؛ فغضب من ذلك، وقال:
(مَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي!)
(متفق عليه.)
ونصه: عن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قالَ:
(جَاءَ ثَلاَثَةُ رَهْطٍ إِلَى بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا! فَقَالُوا: وَأَيْنَ نَحْنُ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؟ قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ! قَالَ أَحَدُهُمْ: أَمَّا أَنَا فَإِنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أَبَداً! وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ وَلاَ أُفْطِرُ! وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلاَ أَتَزَوَّجُ أَبَداً! فَجَاءَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَيْهِمْ فَقَالَ: "أَنْتُمْ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا؟ أَمَا وَاللهِ إِنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ! لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي!) )
والعبرة بعموم اللفظ في كل من خالف النبي صلى الله عليه وسلم، وسار على غير منهاجه، في الدين والدعوة جميعاً!
إن القرآن المجيد مع بياناته النبوية هو كل شيء! وهو - في مسلك الدعوة إلى الله - البرنامج والمنهاج، بما للكلمتين من معنى! فَعَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الْخُزَاعِيِّ رضي الله عنه قَالَ:
(خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: "أَبْشِرُوا! أَبْشِرُوا!.. أَلَيْسَ تَشْهَدُونَ أَنَّ لاَ إِلَهَ إِلا اللهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ؟" قَالُوا: بَلَى! قَالَ: "إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ سَبَبٌ [أي: حَبْلٌ] طَرَفَهُ بِيَدِ اللهِ، وَطَرَفَهُ بِأَيْدِيكُمْ! فَتَمَسَّكُوا بِهِ! فَإِنَّكُمْ لَنْ تَضِلُّوا وَلَنْ تَهْلَكُوا بَعْدَهُ أَبَداً!)
(رواه الطبراني في الكبير، وابن حبان في صحيحه، والبيهقي في شُعَبِهِ، وعبد بن حميد في المنتخب. وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة، وصحيح الترغيب )
والأحاديث الصحيحة في هذا المعنى كثيرة وفيرة! وماذا يكون معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ!)(رواه البخاري)
إذا لم يكن تعلمَ آياته، وأحكامه، وحِكَمِهِ، وتزكية النفس به، والدعوة إليه وبه؟ على ما هو مقرر في غير ما موطن من كتاب الله، في بيان وظائف النبوة الثلاث:
﴿لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ!﴾
(آل عمران: 164)
وإن مجلساً ينعقد لهذا الهدف العظيم - بصدق وإخلاص - لهو حلقة من حلقات الصِّديقين! ومشكاةُ نورٍ مستمدةٌ من مصباح سيد المرسلين! مُتَّحِدٌ مع قافلة الربانيين، من أوائل المؤمنين، من عهد نوح – عليه السلام - إلى خُلَّصِ الحواريين، إلى أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، ثم من تبعهم من الدعاة المخلصين، رضوان الله عليهم أجمعين! سلسلة واحدة بعضها من بعض!
فيا شباب الإسلام!
هذا نداء الله فمن يجيبه؟
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ!﴾
(الأنفال: 24)
وأي حياة أعظم للنفس وللأمة من حياة القرآن؟ وكيف لا؟
وقد جعل الله "الرُّوحَ" اسماً من أسماء القرآن! قال جل جلاله:
﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ!﴾
(الشورى: 52)
وقال سبحانه:
﴿يُنَزِّلُ الْمَلاَئِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاتَّقُونِ!﴾
(النحل: 2)
وقال عز وجل:
﴿رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاَقِ!﴾
(غافر: 15)
وجمهور المفسرين على أن المقصود بلفظ "الروح" في هذه الآيات إنما هو الوحي والقرآن! وكفى بذلك دلالةً على سره الإحيائي العجيب!
إن نداء الدعوة بالقرآن هو نداء عام في كل مسلم ومسلمة، بمعنى أنه لا يلزم أن يكون الداعية به، أو المنخرط في مدرسته، والعاقد لمجالسه، والمكابد لتكاليفه، من أهل العلم المتخصصين به! رغم أن حضور العلماء في الإشراف على مسيرته الدعوية ضرورة شرعية!
بل يجوز أن يكون الداعية المنخرط في مدرسة القرآن، مختصا بعلم آخر من العلوم الإنسانية أو الطبيعية، كالهندسة، والطب، والفلك، والرياضيات، أو علوم الأرض والحياة وغيرها.. وربما كان تقنيا في هذا الفن أو ذاك، أو كان تاجراً، أو فلاحاً، أو صاحب صناعة، أو ربما كان ما كان!
فيكفي أن يحوز على رصيد من العلم بالعربية، يكفيه لفهم خطاب القرآن على الإجمال. وله - بعد ذلك - في كتب التفسير، وفي إرشاد أهل العلم، ما يسدد خطوه في التدرج بمنازل القرآن، والترقي بمعارجه الإيمانية؛ حتى يكون من الْمَهَرَةِ به، تلاوةً وتعبداً وبلاغاً! قال رب الرحمة جل ثناؤه:
﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ!﴾
(القمر: 17، و22، و32، و40).
وإنما كان المخاطَبون بهذا القرآن في البدء قوماً أميين، لا يكتبون ولا يقرؤون! ولا معرفة لهم حتى بمبادئ العلوم، بَلْهَ تخصصاتها المعقدة! وإنما كانوا على فطرة صافية من اللسان العربي، تلقوا بها كلمات الله؛ فجعلت منهم خير أمة أخرجت للناس! وتلك خاصية هذا القرآن العظيم، وهي مستمرة إلى يوم الدين! قال تعالى:
﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ!﴾
(الجمعة: 2)
تلك حقيقة القرآن المجيد! فمن يتلقَّى رسالاتها؟ مَنْ يُسْلِمُ نفسَه لله فَيَدْخُلُ في ابتلاءاتها؟ مَنْ ينطلق في الناس ببلاغاتها، ويبادر إلى عقد مجالسها؟ ويجدد عُمْرَانَ روحِه بِلَبِنَاتِهَا وبركاتها؟ من يُطَهِّرُ نَفْسَهُ بأنوارها وأمطارها؟
من يجاهد حزبَ الشيطان ببوارقها؟ من يتجرد لها فيكون من أهلها ورجالها؟ ولَعَسَاهُ يكون من أهل الله وخاصته؛ بمكابدة آياتها! وإنما:
(أهلُ القرآن هم أهل الله وخاصته*!)
( رواه أحمد والنسائي وابن ماجه والحاكم، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير: 2165 )
فيا عبد الله بحق! هذا زمانك قد أتى! فحتى متى الانتظار؟.. حتى متى؟ وإلى متى..؟