فقه التوحيد
فقه التوحيد
التوحيد هو : إفراد ﷲ عز و جل بما يختص به وما يجب له، فما يختص بالله : أن يعتقد المسلم أن ﷲ واحد لا شريك له ولا مثيل في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله " قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ *اللَّهُ الصَّمَدُ *لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ *وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَد ٌ " ( سورة الإخلاص / 1-4 ) و ما يجب له : التوحيد و الإيمان ، و طاعة الله و عبادته و حده لا شريك له ، و اجتناب عبادة ما سواه : " وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ " ( النحل / 36)
التوحيد الذي دعت إليه الرسل ونزلت به الكتب قسمان:
الأول : توحيد المعرفة والإثبات . وهو توحيد ﷲ بأسمائه وصفاته وأفعاله كالخلق والرزق والإحياء والإماته . فنثبت لله جل جلاله ما أثبته لنفسه أو أثبنه له رسوله صلى الله عليه و سلم من الأسماء و الصفات و الأفعال على ما يليق بجلاله ، اثباتا بلا تكييف و لا تمثيل ، و لا تشبيه و لا تعطيل . و ننفي عن الله ما نفاه عن نفسه أو نفاه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم على حد قوله سبحانه : " لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ " ( الشورى / 11 ) فهو السميع الذي ليس كمثله شئ في السمع ، القوى الذي ليس كمثله شئ في القوة. ويسمى هذا التوحيد توحيد الربوبية والأسماء والصفات، وتوحيد الرب بأفعاله .
الثاني : توحيد القصد و الطلب . و هو إفراد ﷲ وحده بجميع أنواع العبادة التي شرعها كالدعاء ،والصلاة ، والصدقة ، والتوكل ، و المحبة ، و الخوف ، و الرجاء و الاستعانة و الاستغاثة و غير ذلك من أنواع العبادات القلبية و البدنية و المالية ، و ذلك أعظم ما أمر الله به و هو مراد الله من خلقه : " وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ " ( البينة /5 ) .
فالله وحده هو الحق المستحق للعبادة وحده لا شريك له ، ومن صرف شيئا من أنواع العبادة لغيره فهو مشرك كافر : " وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ " ( المؤمنون / 117 ) و يسمى هذا التوحيد توحيد الألوهيه و العبادة أو توحيد الرب بأفعال العباد من صلاة و دعاء و غيرهما .و توحيد الربوبية و الأسماء و الصفات مستلزم لتوحيد الألوهية و العبادة . فمن أقر بأن الله وخده هو الرب الخالق الرزاق الذي له الأسماء الحسنى و الصفات العلى لزمه أن يقر بأنه لا يستحق العبادة إلا الله الخالق الرزاق وحده لا شريك له .فلا يدعوا إلا الله وحده ، ولا يستغيث إلا به ، ولا يتوكل إلا عليه ، ولا يخاف إلا منه ، و لا يرجوا إلا إياه ، و لا يعبد إلا هو ، ولا يصرف شيئا من أنواع العبادة لغيره : " إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ " ( يونس / 3 )
و توحيد الألوهية مستلزم لتوحيد الربوبية . فكل من عبد الله وحده دون سواه لابد أن يكون قد اعتقد و علم أن الله وحده ربه و خالقه ورازقه و مالكه و رب كل شئ : " رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا " ( مريم / 65 ) و توحيد الربوبية و الأسماء و الصفات هو الأصل ، إذ لابد لكل عبد أن يعرف معبوده بأسمائه و صفاته و أفعاله قبل العبادة ، ثم يعبده إذا عرف كمال جلاله و جماله ، و كمال قدرته و علمه ، و كمال غناه و كرمه ، و كمال رحمته و إحسانه : " ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ * لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ " . و لا يغلط أو يقصر في توحيد الألوهية و العبادةإ لا من لم يعط توحيد الربوبية حقه من المعرفة بل توحيد العبادة إنما هو ثمرة ، بل أعظم ثمار توحيد الربوبية ، و ما وقع فيه الشرك إلا بسبب الجهل بتوحيد الربوبية و الأسماء و الصفات . ولا ريب أن دوام الذكر و الدعاء و حسن العبادة ، و الصبر و التوكل ، و الخوف و الرجاء ، و المحبة و الاستعانة و الإنابه و الرضا و التسليم ، و غير ذلك من أنواع العبادات من ثمرات معرفة توحيد الربوبية " فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ " ( محمد / 19 ) . و توحيد الربوبية مركوز في الفطرة ، و لهذا أقر به أكثر الخلق ، لشدة ظهوره في الملك و الملكوت ، ولم ينكره إلا شواذ الخلق في الظاهر لا في الباطن كما قال فرعون : " فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى * فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولَى * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَى " ( النازعات / 24-26) و لهذا أنكرت الرسل على من أنكر و جحد وجود الرب جل جلاله ، لأن وجوده أبين و أظهر و اوضح من الشمس التى لا تخفى إلا على الأعمى : " قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى " ( إبراهيم / 10 ) .
و النظر و التفكر في الآيات الكونية و الآيات الشرعية يزيد هذا التوحيد و يقويه ، و يملأ القلب بالنور . و توحيد الألوهية و العبادة كفر به و جحده أكثر الخلق ، لأن الشياطين صرفت الناس عن معرفة الله بأسمائه و صفاته الى علوم الدنيا ، و اجتالتهم عن دين رب العالمين الى اتباع الشهوات و عبادة غير الله ، فوقعوا في الكفر و الشرك و المعاصي . ومن أجل هذا أرسل الله الرسل و أنزل الكتب رحمة بعباده ، لرد الناس إلى عبادة الله وحده لا شريك له ، و ترك عبادة ما سواه ، ببيان أسماء الله وصفاته و أفعاله ليعبدوه وحده لا شرك له بما شرعه على ألسنة رسله : " وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ " ( النحل / 36 ) .
و اعلم أن توحيد الربوبية أساس توحيد الألوهية ، ولكنه لا يكفي للدخول في الإسلام حتى يقترن به توحيد العبادة ، فهما متلازمان في حياة كل مسلم ، هذا مبنى على هذا ، ولا يقبل هذا الا بهذا ، ولا يصلح عمل إلا بهذا و هذا . توحيد الربوبية توحيد الرب بأفعاله ، و توحيد الألوهية توحيد الرب بأفعال العبد : " ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ " ( الأنعام / 102) . و الإسلام هو الاستسلام لله بالتوحيد ، و الانقياد له بالطاعة ، و البراءة من الشرك و أهله . فمن استسلم لله وحده فهو مسلم ، و من استسلم لله و لغيره فهو مشرك ، و من لم يستسلم لله فهو كافر مستكبر : " فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ " ( الشعراء / 213) . و من استسلم لله ظاهرا و باطنا فهو مؤمن ، و من كفر بالله ظاهرا و باطنا فهو كافر ، و من اسلم ظاهرا و كفر باطنا فهو منافق أخطر من الكافر ، و أشد عذابا منه : " إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا " ( النساء / 145) . و الكفر أعظم من الشرك ، لأنه جحد للرب بالكلية ، و الشرك أخف منه ، لأنه تنقص للرب ، و كل منهما يطلق على الآخر ، وكل منهما نجس و قبيح ، و كل منهما ظلم كبير و عظيم ، و كل منهما في النار و كل الكفار و المشركين مخلدون في النار .
1- قال الله تعالى : " إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا *خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لّا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا " ( الأحزاب / 64-65) .
2- و قال الله تعالى : " إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ " ( المائدة / 72 ) .