محبة الله من وسائل الاتصال بالله و تقوية الروح


أ. د. فؤاد محمد موسى

 

حب الله شعورٌ ممتع ، إذا احتوى قلب الإنسان و عقله ، يبدِّل حياتَه ، و يبعث داخله الدافعَ و الأمل ، شعورٌ يحتاجه الإنسان في كل وقت و حين .

 

لكنَّ استمرار هذا الحبِّ يعتمد على تغذيةٍ روحيَّة من المحبوب ، فإذا بادلنا المحبوب نفس الشعور ، كان هذا الحبُّ أجملَ ما في حياتنا

 

فإذا وصلت روحك بالله ، شعرت بهذه المحبة، وتلذذت بها، ولا تشعر بغيرها حتى ولو ماجت الأرضُ ومَن عليها؛ ألم تقرأ قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث السبعة الذين يُظلُّهم الله بظِلِّه يوم لا ظل إلا ظلُّه : " رجل ذكَرَ الله خاليًا ففاضتْ عيناه " ؟

و محبة الله و رسوله أعلى و أغلى محبةٍ ، بل لا يعدلها منزلةٌ على الإطلاق .

 

يقول ابن القيم رحمه الله و هو يتحدث عن منزلة المحبة : " وهي المنزلة التي فيها تنافَسَ المتنافسون، وإليها شخص العاملون، وإلى عَلَمِها شمَّر السابقون، وعليها تفانى المحبُّون، وبرَوْحِ نسيمها تروَّح العابدون؛ فهي قُوت القلوب، وغذاء الأرواح، وقرة العيون، وهي الحياة التي مَن حُرِمَها فهو من جملة الأموات، والنورُ الذي من فقَدَه فهو في بحار الظلمات، والشفاءُ الذي من عدِمه حلَّت بقلبه جميعُ الأسقام، واللذةُ التي من لم يظفر بها فعيشُه كلُّه هموم وآلام، وهي روح الإيمان والأعمال والمقامات والأحوال التي متى خلت منها فهي كالجسد الذي لا روح فيه، تَحْمِلُ أثقال السائرين إلى بلاد لم يكونوا إلا بشِقِّ الأنفُسِ بالغيها، وتوصلهم إلى منازل لم يكونوا بدونها أبدًا واصليها، وتبوِّئُهم من مقاعد الصدق مقاماتٍ لم يكونوا لولاها داخليها، وهي مطايا القوم التي مسراهم على ظهورها دائمًا إلى الحبيب، وطريقهم الأقوم الذي يبلغهم إلى منازلهم الأولى من قريب، تالله لقد ذهب أهلُها بشرف الدنيا والآخرة؛ إذ لهم من معية محبوبهم أوفرُ نصيبٍ، وقد قضى الله يوم قدَّر مقادير الخلائق بمشيئته وحكمته البالغة أن المرء مع من أحَبَّ، فيا لها من نعمة على المحبين سابغة! " . (مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين)

 

إذا غُرست شجرة المحبة في القلب، وسُقيت بماء الإخلاص ومتابعة الحبيب، أثمرتْ أنواعَ الثمار، وآتت أُكُلَها كل حين بإذن ربها، أصلُها ثابت في قرار القلب، وفرعُها متصل بسدرة المنتهى.

 

لا يزال سعي المحب صاعدًا إلى حبيبه لا يحجُبُه دونه شيء ﴿ إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ﴾ . [فاطر: 10]

 

إن المحبة شجرة طيِّبة ؛ أصلُها ثابت ، و فرعُها في السماء ، و ثمارُها تظهر في القلب و اللسانِ و الجوارح ، و قد وصف الله تعالى المحبين بالعديد من الأوصاف ، فقال تعالى : ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾ . [المائدة: 54]

 

و قال تعالى : ﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ﴾ . [آل عمران: 31]

 

و قال تعالى : ﴿ قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ﴾ . [التوبة: 24]

 

و قال تعالى : ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ ﴾ . [البقرة: 165]

 

تقرَّبْ إلى الله يُحبَّك الله ، و من فاز بمحبة الله فقد سعد في الدنيا و الآخرة ، قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : " إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ الْعَبْدَ ، نَادَى جِبْرِيلَ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلَانًا فَأَحْبِبْهُ، فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ، فَيُنَادِي جِبْرِيلُ فِي أَهْلِ السَّمَاءِ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبُّوهُ، فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ، ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي الْأَرْضِ " . [البخاري عن أبي هريرة]

 


أجمل ما في حب الله :

 

1- أننا نستطيع أن نحبه بكل طاقتنا ، و أن نتقرَّب إليه ليلَ نهارَ ؛ فهو لن يَمَلَّ منا و مِن حبِّنا .

 

2- أننا نستطيع أن نكشف لله ضعفَنا ( و هو أعلم به ) ، و أن نطلب منه الملجأ و السند في كل وقت ، و لن يتخلى عنا .

 

3- أننا نجده معنا في كل مكان وفي كل وقت، وهو يعرف سِرَّنا وجهرنا، وقتما أردنا أن نناجيَه نجده هو السميع البصير، نناجيه بالساعات وهو يسمعنا، ولو كنا بين الناس وعلتْ أصواتهم، فصوتُ قلبنا عند الله أعلى منهم.

 

4- أننا لا نحتاج أن ننقُلَ له ما نفعله لنُثبِتَ له أننا نحبه، فإذا ذكَرْناه في نفسنا أو في جمعٍ، يسمعُنا، وإذا فعلنا شيئًا لوجهه لا يراه أحد، هو يراه سبحانه، بل يعلم ما لا نعلمُه نحن عن نفسنا؛ لذا فإنه لا يظلمُنا أبدًا ولا يبخسنا حق حبنا أبدًا.

 

5- أنه سيتسامح معنا إلى أبعد الحدود طالما عدنا إليه وطلبنا السماح، ولن يُذِلَّنا ليسامحنا أو يحمل ضغينة تجاهنا كما يفعل البشر.

ولمحبة الله ورسوله علاماتٌ ومَظاهرُ؛ من أهم هذه العلامات وأبرزها: أن يكون الله ورسوله أحَبَّ إلى الإنسان مما سواهما، وأن يحبَّ ما يحبُّ اللهُ ورسوله، ويَكرَهَ ما يَكرَهُ اللهُ ورسوله من الأقوال، والأفعال، والأشخاص، والأماكن، وغير ذلك؛ ففي الصحيحين عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : " ثلاث من كُنَّ فيه وجد بهنَّ حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحبَّ إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله، كما يكره أن يُقذف في النار " .

 

و عن معاذ - في حديث اختصام الملأ الأعلى - عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : " أتاني ربي تبارك و تعالى في أحسن صورة - يعني في المنام - " فذكر الحديث ، وقال في آخره : " قال : سل ، قلتُ : اللهم إني أسألك فعل الخيرات ، و ترك المنكرات ، و حب المساكين ، و أن تغفر لي و ترحمني ، و إذا أردتَ بقوم فتنة فتوفني إليك غير مَفتونٍ ، و أسألك حبك ، و حب من يحبك ، و حب كل عمل يقرِّبني إلى حبك " ، فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : " إنها حقٌّ ؛ فادرسوها ، ثم تعلَّموها " . [رواه أحمد والترمذي وقال: حسن صحيح].

 

وسائل الحصول على محبة الله :

 

1- أن يُكثر الإنسان من التقرب إلى الله بنوافل الطاعات، بعد محافظته على الفرائض والواجبات، وبُعده عن المحرَّمات؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : " إن الله تعالى قال: من عادى لي وليًّا فقد آذنته بالحرب، وما تقرَّبَ إليَّ عبدي بشيء أحب إليَّ مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه ... " . [صحيح البخاري]

و من هذه النوافل : الإكثار من قراءة القرآن؛ قال ابن رجب رحمه الله: "ومِن أعظم ما يتقرب به العبدُ إلى الله تعالى من النوافل: كثرةُ تلاوة القرآن، وسماعه بتفكُّرٍ وتدبُّر وتفهُّم؛ قال خبَّابُ بن الأَرَتِّ لرجل: تقرَّبْ إلى الله تعالى ما استطعتَ، واعلم أنك لن تتقرب إليه بشيء هو أحب إليه من كلامه .

 

فلا شيء عند المحبِّين أحلى من كلام محبوبهم ؛ فهو لذة قلوبهم ، و غايةُ مطلوبهم ، قال عثمان رضي الله عنه : لو طهرت قلوبُكم ، ما شبعتم من كلام ربكم . (جامع العلوم والحكم، صـ(364) لابن رجب)



2- الإكثار من ذِكرِ الله تعالى الذِّكرَ الذي يتواطأ عليه القلبُ و اللسان ، و كذلك الإكثار من الصلاة على النبي صلى الله عليه و سلم على الصفة الشرعية ، و ذكرُ الله من أفضل الأعمال و القرُبات ؛ فعن معاذ رضي الله عنه قال : قلت : يا رسول الله ، أخبِرْني بأفضل الأعمال و أقربها إلى الله تعالى ؟ قال : " أن تموت و لسانُك رطب من ذكر الله تعالى " . رواه البزار في مسنده، وقال الألباني: "حسن صحيح"؛ كما في صحيح الترغيب و الترهيب رقم (1492).

 

3- مطالعة القلب لأسماء الله و صفاته و مشاهدتها و معرفتها ، و تقلُّبُه في رياض هذه المعرفة ، عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه و سلم بعث رجلًا على سريَّة ، فكان يقرأ لأصحابه في صلاته فيختم بـ ﴿ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ﴾ [الإخلاص: 1] ، فلما رجَعوا ذكَروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه و سلم ، فقال : " سَلُوهُ لأي شيء يصنع ذلك ؟ " ، فسألوه فقال : لأنّها صفة الرحمن ؛ فأنا أُحِبُّ أن أقرأ بها ، فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : " أخبِروه أنّ الله يحبه " .

 

و عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال النبي صلى الله عليه و سلم : " يقول الله تعالى : أنا عند ظن عبدي بي ، و أنا معه إذا ذكَرَني ، فإنْ ذكَرَني في نفسه ذكرتُه في نفسي ، و إن ذكَرَني في ملأ ذكرتُه في ملأ خيرٍ منهم ... " . [في الصحيحين البخاري و مسلم]

 

و قال الله عز وجل : ﴿ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ ﴾ . [البقرة: 152]

 

 

4- التعود على أن يكون كلُّ فعل أو كل سلوك ، في السكون أو في الحركة لله ربِّ العالمين : ﴿ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ﴾ . [الأنعام: 162، 163]

 

و قد جاء عن سهل بن معاذ بن أنس الجُهني عن أبيه : أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : " من أعطى لله و منع لله ، و أحَبَّ لله و أبغض لله ، و أنكح لله ، فقد استكمل إيمانه " . [رواه الترمذي]
 

فهذه معانٍ عظيمةٌ وجليلة في محبة الله ورسوله، يجب على المسلم فقهُها وتعلُّمُها والعمل بها؛ حتى يكون من المحبين الصادقين، فلا عيش إلا عيشُ المحبين الذين قرَّتْ أعينُهم بحبيبهم، وسكَنَتْ نفوسُهم إليه، واطمأنَّتْ قلوبُهم به، واستأنسوا بقربه، وتنعَّموا بحبه، ففي القلب فاقة لا يسُدُّها إلا محبةُ الله والإقبال عليه والإنابة إليه، ولا يلمُّ شعثه بغير ذلك أبدًا، ومن لم يظفر بذلك فحياتُه كلها هموم وغموم، وآلامٌ وحسرات، فإنه إن كان ذا همة عالية تقطَّعتْ نفسه على الدنيا حسرات؛ فإن همته لا ترضى فيها بالدُّونِ، وإن كان مهينًا خسيسًا فعيشه كعيش أخسِّ الحيوانات؛ فلا تقرُّ العيونُ إلا بمحبة الحبيب الأول .

 

 

السابق التالى

مقالات مرتبطة بـ محبة الله من وسائل الاتصال بالله و تقوية الروح

  • هناك محبتان

    فريق عمل الموقع

    هناك محبتان : محبة هي جنة الدنيا ، و سرور النفس ، و لذة القلب ، و نعيم الروح ، و غذاؤها و دواؤها ، بل حياتها و قرة

    27/02/2018 2258
  • محبة الله عز وجل

    الشيخ أحمد فريد

    لسبب الأول: هو محبة الله عز وجل، وإن كانت المحبة غاية، إلا أن العبد إذا وصل إلى محبة الله عز وجل، فلا شك أن هذا

    14/03/2013 4976
  • إطالة الدعاء تدل على محبة الداعي

    ابن عثيمين

    إطالة الدعاء تدل على محبة الداعي ؛ لأنّ الإنسان إذا أحب شيئاً أحب طول مناجاته ، فأنت متصل بالله في الدعاء ،

    29/12/2017 3821
معرفة الله | علم وعَملIt's a beautiful day