ما هي العلامات التي تدل على إخلاص العبد ؟
يمكن أن أذكر أهم هذه الملامح و أبرزها ، أول هذه العلامات أيها الإخوة هي أن يكون همه انتشار الخير و ظهور الحق ، و تدين الناس بهذا الحق الذي جاء به الرسول صلى الله عليه و سلم سواء كان ذلك ظاهراً على يده أو ظاهراً على يدي غيره ، المقصود تكثير الخير وتقنين الشر ، سواء كان ذلك بجهده و بتوفيق الله عز وجل له ، و أن يُكتب ذلك فيقال فلان هو الذي عمل المشروع الفلاني ، فلان هو صاحب الفكرة ، فلان هو الذي بذل الجهود من أجل الحصول على الترخيص لهذا العمل ، و هو الذي جمع أموال المتبرعين و ما إلى ذلك ، أو أنّ ذلك لم يُذكر ، و لم يطلع عليه أحد ، فالناس لا يعرفونه و ما سمعوا به قط ، و إنّما الذين ظهروا في الصورة هم قومٌ آخرون ، فهو لا يهتم بذلك ، لا يلتفت إليه ، هذا هو المخلص .
الشافعي رحمه الله كان يقول : " وددت أنّ الخلق تعلموا هذا العلم على أن لا يُنسب إليّ منه حرف " ، و هو علمٌ جمّ " لا يُنسب إليّ منه حرف " ، فأين هذا ممن يرفع قضية في المحكمة على طالب علم ؛ لأنّه اقتبس بعض الاقتباسات في رسالته الماجستير أو الدكتوراه من كتاب هذا العظيم المؤلف الذي لا نظير له في عالم المؤلفين من البشر ، في زعمه اقتبس بعض الاقتباسات و لم يذكر الإحالة إلى كتابه المبجل ، دعوى تُقام في محكمة على طالب علم بحجة أنّه لم يُشر إلى كتاب هذا الإنسان الذي نُقل منه !
العلماء لازال ينقل بعضهم من بعض ، و كثيرٌ منهم لا يشير و لا حيلي ، فعلى أي شيء وقفة النفس و المخاصمة و المنازعة من إنسان ينتسب إلى العلم ، أين أنت من قول الشافعي : " وددت أنّ الخلق تعلموا هذا العلم على أن لا يُنسب إليّ منه حرف " ؟ .
وكان يقول : " ما ناظرت أحداً قط على الغلبة " ، ما ناظرته لأغلبه ، لاحظ حسن القصد من البداية ، يقول : " و وددت إذا ناظرت أحداً أن يظهر الحق على يديه " ، و لهذا ما ناظر الشافعي رحمه الله رجلاً إلا غلبه ، الشافعي يغلبه و هذا بسبب إخلاصه و حُسن قصده ، و قد قال بعض من شاهده في المناظرة ، يقول : ما رأيت الشافعي يناظر أحداً إلا رحمته - يرحم المُنَاظَر- ، يقول : كأنه فرخ بين يديه ، و الشافعي رحمه الله كأنّه سَبْعٌ يلتهمه ، فهو يورد عليه الحجج من هنا و هنا ، و ذلك لا يدري كيف يجيب ، فأقول هذا الإمام الشافعي رحمه الله تعالى .
و قد ذكر بعض أهل العلم مثلاً يوضح ذلك ، و هو أنّ الواعظ أو المحاضر أو المدرس أو الداعية لله عز وجل ، إذا وُجد في مكانه رجلاً أو حلّ البلد أحدٌ هو أفقه منه و أعلم منه و أبلغ منه ، و استمال قلوب الناس و أذعنوا له استفادوا منه ، و تاب على يده خلقٌ أكثر من الذين تابوا على يد الأول ، يقول : إذا كان مخلص فإنّه لا يتبرم و يفرح أنْ قد كُفي ، و أنّ هذا الخير قد ذاع و انتشر وانتفع الخلق بهذا الهُدى ، و أما إذا كان في إخلاصه نظر ، فإنّه يتبرم بذلك و يغضب ، و ربما حاول أن يتنقصه بطريقة مباشرة أو غير مباشرة ، هذا ما إذا كاسره العداوة أصلا ً، و لربما قال فلان واعظ و ليس من أهل العلم ، فلان لا فقه له ، فلان لا رسوخ له في العلم ، و لربما دعاه باسمه المجرد ، و هذا لا إشكال فيه و لا غضاضة ، فنحن نقول أبو بكر و عمر ، لكن إذا جرى العرف أن
يقال عن العالم : العالم الفلاني و ما إلى ذلك ، و يقال للجميع إلا هذا ، فإذا ذكرته قلت فلان ، سميته باسمه فقط أو باسم عائلته فقط و نحو ذلك ، فهذا يدل على أنّك تريد انتقاصه و حط منزلته ، و لكن هيهات هيهات فإنّ الإخلاص مسك مصونٌ في مسك القلب يُنبئ ريحه على حامله ، فمهما كان الإنسان يعمل و يبذل فإنّه إن لم يرد وجه الله عز وجل يرجع إلا بالخيبة ، و إذا كان الإنسان مخلصاً جعل الله عز وجل له القبول ، فلا حاجة للتعب و لا حاجة للاستماتة للنظر إلى المخلوقين كما ذكرنا سابقا ً.
و من علامات المخلص أنّه لا يبالي بثناء الناس و مدحهم و إطرائهم ؛ لأنّه لا يريد هذا أصلاً ، أما غير المخلص فإنّ الكلمة ترضيه التي فيها تعظيمه و لو كانت باطلاً ، و لو كانت في غير حق ، و الكلمة التي تقال في حقه و هي من الحق التي – يضاف- ينسب فيها إلى شيء لا يليق تسخطه و ترهبه ، و لربما نقم على هذا القائل الذي ذكر له هذه الكلمة و يستاء من سماعها ، فهذا لا يكون مخلصاً ، المخلص يفرح بالنصيحة و يفرح بملحوظات إخوانه ليكملوه ، ليسدوا هذا النقص ، و من قال أنّه ملك من الملائكة معصوم ليس عنده أخطاء ؟ الجميع عنده أخطاء ، و إنّما يُسدد الإنسان و يعان بعد توفيق الله عز وجل بإخوانه ، حيث ينصحوه و يبينوا له عواره و اعوجاجه ، فيقوم هذا و يجاهد نفسه على إصلاح الحال بحسب طاقته ، و الله لا يُكلف نفساً إلا وُسعها ، أما أن يكون الإنسان يطرب إذا مُدح و لو بالباطل ، و يغضب إذا قيل له كلمة - كلمة نقد - و يخاصم و يشاحن على ذلك ، فهذا ليس من المخلصين .
و من علامات المخلص أنّه لا يبالي لو خرج كل قدرٍ له في قلوب المخلوقين ، المهم أنّ الله يرضي عنه ، و أنّ الله يُقربه و يجتبيه ، و هو لا يبالي بالمخلوقين أحبوه ، عظموه ، أكرموه ، أو أنهم نابذوه و عادوه و انصرفوا عنه ، همه إصلاح القلب و إصلاح العمل ، و تصحيح القصد و الإرادة و النية ، و لا يحب أن يطلع الخلق على مقادير الذر من أعماله الصالحة ، بينما الآخر أبداً همه هذه المنزلة في قلوب المخلوقين كيف يبقيها ، و لذلك إن كان فقيهاً فهو فقيه الجماهير ، فهو يفتيهم بما يميلون إليه ، إن كان مجالساً للتجار فاسمع الفتاوى التي تروق للتجار ، و إن كان مجالساً للعامة فإنّه يرخص لهم الأمور التي يميلون إليها ، و هكذا هو مع كل طائفة بحسب ما
يروق لهم ؛ من أجل ألا يفقد الجماهير ، من أجل ألا يفقد الشريحة أو القاعدة الجماهيرية التي تشاهد ندواته و محاضراته عبر القنوات الفضائية أو عبر الانترنت أو غير ذلك ، فهو يرى أنّ هذا رصيد ، كما يعبر بعضهم ( المحافظة على الشهرة أصعب من تحصيل الشهرة ) ، حكم و درر للبلداء للغافلين للمعرضين عن الله عز وجل و عن الدار الآخرة .
المحافظة على الشهرة أصعب من تحصيل الشهرة ! يا قوم أين أنتم ؟! و ما حاجته بتحصيل الشهرة حتى يحتاج إلى المحافظة على الشهرة و أنّ ذلك أمرٌ صعب ! و ما وجه الصعوبة في زعمهم ؟ وجه الصعوبة أنّه قد يصدر منه تصرف يُنفر منه الناس ، و أنّ رضا الناس غاية لا تُدرك ، بالتالي فهو دائماً في حال شد و جذب ، إذا مال الناس من هنا فهو في ميزان كميزان الذهب لا يميل عنهم و لا يصدر منه شيءٌ يغضبهم ، و إذا استفتوهُ في بعض المسائل التي تمس حياتهم و تمس معيشتهم أو الأمور التي يعنون بها ، فإنّه يعطيهم الفتاوى الملساء ، الفتاوى التي لا تجرح مشاعرهم و لا تُكدر خواطرهم ، أين هذا من الإخلاص و إرادة وجه الله عز وجل ؟
أمّا الآخر فإنّه قوال بالحق لا يهمه و لا يكترث بالناس و إن سخطوا عليه جميعاً ، المهم أنّه يتقلب في رضا الله عز وجل ، يمشي على الأرض يأكل و يشرب و ينام و الله راضٍ عنهُ ، و هذا هو المهم أيها الإخوان ، أما أن يكون الإنسان الناس يثنون عليه و يحبونه و يطرونه و إلى آخره ، و يسمع له الملايين عبر قنواتٍ فضائية ، ما حاجته لذلك إذا كان الله عز وجل يسخط عليه ؟
قرأت في بعض التقريرات لبعض كبار القساوسة ، أنّ الذين يتابعون برامجهم في بعض القنوات في أوروبا و أمريكا لربما تبلغ في بعض الإحصائيات ، الذين يتابعون البرنامج الأسبوعي له ، يزيد عن الخمسة عشر مليون إنسان ، هذه أعداد أحدهم يبني مدينة كاملة نحن نسميها مدينة دعوية و هو يسميها مدينة - لا أدري ماذا يسميها - لكنّها تكلف أكثر من 30 مليار ، هذه المدينة تستوعب عدداً لا نتخيله أبداً في عالمنا هذا من الحضور الذين يتابعون هذه الدروس و يتابعون هذه المحاضرات ، و هو نصراني نجس قذر ، يعبد ثلاثة آلهة ، و مع ذلك هل قال الخلق ، ماذا يغني عنه هذه الخلائق أيها الإخوان ، ماذا يغنون عنه ؟ هو يضلهم و تنتشر أخطائه بينهم ، و
المؤمن هو الذي يبلغ حكمة الله عز وجل و يخاف من الزلل ، و يخاف أن لا يُوفق فيخذل ، و يجري الخطأ على لسانه ، و من يُعصم من ذلك ؟ ثم ينتشر بين الناس بسبب زلته ، و يخطئ فئام من الناس بسبب غلطه ، فالمؤمن يخاف من هذا .
ثم أيضاً على (...) للمخلص أنّه إذا عرض له أمران ، أحدهما يُرضي الله عز وجل و الثاني يُرضي المخلوقين و يسخط الله تبارك و تعالى ، أحدهما يكون فيه إيثار نصيب الآخرة و الآخر إيثار نصيب الدنيا ، فإذا عرض له هذا و هذا فإنّه يقدم نصيب الآخرة ، و لو كانت النتيجة المصادرة ، و لو كانت النتيجة القتل ، و لو كانت النتيجة الحجر ، أن يُحجر على هذا الإنسان و لا يصل صوته إلى أحدٍ من المخلوقين ، حِيل بينه و بينهم ، هو لا يحاسب على ذلك ، والله عز وجل لا يقول له عند إذٍ : لماذا لم تبلغ كلمة الحق ؟ فإنه يكون معذوراً عند الله عز وجل ، و لكنّه يحمل معانٍ من الإيمان و التقوى و العلم و الهدى ما يرفعه عند الله عز وجل في أعلى المنازل .
و لذلك ذكرت لكم كلام شيخ الاسلام حينما كان في سجن القلعة ، كان يقول : " هؤلاء الذين تسببوا في سجني ، لو وزنت لهم هذه القلعة ذهباً و فضة ، ما كافأتهم على هذا العمل " ، لما حصل له من المعاني الإيمانية و ما حصل له من المعارف و الأحوال القلبية ، فهذا يقوله مع أنّه حُيل بينه و بين الناس ، و وضع في سجن لا يأتيه الناس و لا يزورونه ، حتى إنّ الورق منع منه و الأقلام ، فصار يكتب بالفحم على الجدران ، و كان هذا أشد الأشياء عليه أنّه مُنع من الكتابة ، و لم يعبئ بالناس ، لما أُدخل في سجن آخر فيه كبار المجرمين فتحول السجن إلى مكان للعبادة و العلم ، حتى إنّهم خافوا على هؤلاء منه أن يقلبهم إلى أتباع فأخرجوه من السجن ، هكذا يكون المخلص الذي يريد وجه الله عز وجل لا يهمه أن يبوأ في المراتب العالية في الدنيا ، لا يهمه أن يحصل رئاسةً أو أن يحصل منزلةً أو أن يحصل منصباً ، إنّما يريد رضا الله تبارك و تعالى .