ثالثاً: إعجاز الهداية
وهذا النوع من الإعجاز هو الغاية والهدف الأسمى من القرآن الكريم، أما غيره فهو تابع له، ووسيلة من وسائله.
قال تعالى: ﴿إِنَّ هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانَ يَهۡدِي لِلَّتِي هِيَ أَقۡوَمُ وَيُبَشِّرُ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ٱلَّذِينَ يَعۡمَلُونَ ٱلصَّٰلِحَٰتِ أَنَّ لَهُمۡ أَجۡرٗا كَبِيرٗا ٩﴾ [ الإسراء ]، وقد بين لنا القرآن الكريم أن الله تعالى هدى الإنسان إلى مراتب من الهداية:
الأولى الهداية التامة: وهي هداية المخلوق الآدمي والحيوان لمصالحه التي بها قيام عيشه، قال تعالى: ﴿سَبِّحِ ٱسۡمَ رَبِّكَ ٱلۡأَعۡلَى ١ ٱلَّذِي خَلَقَ فَسَوَّىٰ ٢ وَٱلَّذِي قَدَّرَ فَهَدَىٰ٣﴾ [الأعلى]، فالله سبحانه سوى خلقه واتقنه وأحكمه، ثم قدر له أسباب مصالحه في معاشه، وهداه إليها، فالهداية هنا تعليم.
الثانية هداية التوفيق والإلهام والثبات على الحق: فالإنسان وقد فطره الله على طلب المعرفة، ومن الناس- الذين خلصوا من المؤثرات الخارجية من الركون إلى التقليد، والتمسك بالأعراف القبلية والعنصرية- عندهم حب البحث عن الحقيقة ليهتدوا إلى الحق، ولكن شهوات الغي مانعة من وصول أثر الهداية إليهم. وقد أمرنا الله تعالى أن نسأله الهداية والثبات على الحق، وألا تخوننا إرادتنا، وذلك كل يوم خمس مرات في صلواتنا ونقول: ﴿ٱهۡدِنَا ٱلصِّرَٰطَ ٱلۡمُسۡتَقِيمَ ٦ صِرَٰطَ ٱلَّذِينَ أَنۡعَمۡتَ عَلَيۡهِمۡ غَيۡرِ ٱلۡمَغۡضُوبِ عَلَيۡهِمۡ وَلَا ٱلضَّآلِّينَ ٧﴾ [الفاتحة]، وهذه المرتبة من الهداية خص الله بها من شاء من عباده قال تعالى: ﴿إِنَّكَ لَا تَهۡدِي مَنۡ أَحۡبَبۡتَ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ يَهۡدِي مَن يَشَآءُۚ وَهُوَ أَعۡلَمُ بِٱلۡمُهۡتَدِينَ٥٦﴾ [القصص].
فحرم منها عم النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أقرب الناس إليه، فقد وقع تحت تأثير قومه، وقال: (أخاف السبة والعار)، ورزقها وثبت عليها سلمان الفارسي وبلال الحبشي، ومن شاء الله من عباده الأخيار.
إذ لما كان الفساد والظلم والظلام قد عم الدنيا، جاء الإسلام وأضاءها بنوره، وسرى إلى القلوب والعقول، فحررها وأعلى من اهتماماتها فنبذت كل ما سوى الله تعالى.
ومن أجل هذه الغاية، ولهذا الهدف السامي، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يبلغ دين الله في هذا العالم، وينشره في الأرض، ويجاهد في سبيله حق جهاده، وفي سبيله بذل الصحابة رضوان الله عليهم، والصالحون من المسلمين من بعدهم دماءهم وأموالهم لإيصاله إلى أنحاء المعمورة، ولقي المسلمون ما لقوا من العذاب، وقاسوا ما قاسوا من الأهوال من أجل المحافظة عليه في نفوسهم ونفوس أبنائهم، وشواهد ذلك كثيرة، منها على سبيل المثال: في الصين وجدت قرى حصرت نفسها في قمم الجبال، يعيش أهلها على شظف العيش حفاظاً على دينهم. وفي بعض الجهات الإسلامية الموجودة على سطح هضبة التبت، بين باكستان وبلوشستان والصين، هناك قرى أنشئت في قمم الجبال من أجل أن تحافظ على دينها فقط، وهم يقولون: نعيش في شظف من العيش من أجل أن نحافظ على ديننا. وحورب الإسلام في روسيا حرباً لا هوادة فيها، ولا يمكن لعقل أن يتصور مداها ومع ذلك بقي الإسلام فلم يقض عليه.
ولقد رأيت بعيني، وسمعت بأذني في روسيا ـ حين زرتها للمشاركة في مؤتمر الإعجاز العلمي الذي طالما تحدثت عنه ـ في هذا المؤتمر الذي عقدناه في معهد جورباتشوف الذي كان قبل ذلك معهداً لتخريج الكوادر الإلحادية، وكان يصدر الإلحاد إلى الأرض، ولا يوجد شيوعي في العالم إلا استقى من هذا المكان فكرة الإلحاد، يقول رئيس هذا المعهد: من هنا كنا نصدر إلى الدنيا: لا إلـه، فجئتم لتثبتوا لنا أن:لا إلـه إلا الله بمنطق العلم.
في هذا المعهد، عقدنا مؤتمراً للإعجاز العلمي، وأسلم أثناء المؤتمر سبعة من كبار علماء روسيا، بمجرد انقشاع شبهات الإلحاد، فخرج المسلمون من تحت الأرض، ومن وسط اللهب، وهم يقولون: (لا إله إلا الله، نحن مسلمون- لم ينتزع الإيمان من قلوبنا).
كل ذلك وغيره من الشواهد الكثيرة يدل على أن الإسلام دين الله الذي تجاوبت معه الفطرة، وأنه لا يمكن لأحد مهما بلغت قوته وسطوته أن يزيل تلك الهداية من قلوب الناس وفطرهم. إنه إعجاز الهداية، التي إذا خالطت قلباً بقيت فيه، وتشبثت به. يقول الله تعالى: ﴿يُرِيدُونَ لِيُطۡفُِٔواْ نُورَ ٱللَّهِ بِأَفۡوَٰهِهِمۡ وَٱللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِۦ وَلَوۡ كَرِهَ ٱلۡكَٰفِرُونَ ٨﴾[ الصف]، ويقول تعالى: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمۡوَٰلَهُمۡ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِۚ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيۡهِمۡ حَسۡرَةٗ ثُمَّ يُغۡلَبُونَۗ﴾ [الأنفال: 36].
إن من أعظم شواهد وصدق هذا الدين أنه دين الفطرة، وأنه ما دخل الإسلام أرضاً وخرج منها، بل استوطنها، وعاش فيها وأصبح جزءاً من كيانها، إلا الأندلس فإنها البلد الوحيد الذي خرج منه المسلمون لحكمة أرادها الله وعبرة لمن يريد أن يعتبر، وقد خرجوا لسببين اثنين وهما داء الأمم: إنهما الخلاف على الزعامة، والحرص والترف، فاعتبروا يا أولي الأبصار.
وفي إسبانيا وقد أقيمت محاكم التفتيش المشهورة من أجل القضاء على الإسلام والمسلمين. ومع ذلك لا تزال شواهد بقاء حضارة الإسلام والمسلمين قائمة حتى يومنا هذا، تشهد أن الإسلام دين العلم.