تبصرة في مجلس الذكر


الدكتور / فريد الأنصاري

الدخول في الذكر يحسن أن يكون بمجلس مخصص له ابتداء، فذلك أفضل؛ لشهادة السنة له في أحاديث كثيرة وردت في فضل (مجالس الذكر)، وقد سبق ذكر بعضها؛ ولتواتر فعله عن الصحابة رضي الله عنهم أجمعين. لكن يمكن أن يدخل فيه الإنسان بغير مجلس مخصص، كأن يكون مسافراً فيقطع المسافات بتلاوة أوراده، من قرآن. أو أذكار. ولذلك قال الله عز وجل

{الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم}

(آل عمران: 191)

وإنما ورد حديث (سبق المفردون) ـ الذي سبق الاستشهاد به أكثر من مرة ـ في سفره صلى الله عليه وسلم فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة الذين كانوا معه في سفر. ففي رواية مسلم للحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال :

(كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير في طريق مكة. فمر على جبل يقال له جمدان فقال: "سيروا. هذا جمدان. سبق المفردون! قالوا: وما المفردون يا رسول الله؟ قال "الذاكرون الله كثيراً، والذاكرات!")

إلا أن الجلوس له أفضل قطعاً؛ لكثرة ما ورد فيه من النصوص، ولما اختص به من فضل اجتماع الملائكة. ومن أشهر ذلك حديث ملائكة الذكر، الذي سبق إيراده أيضا. قال الإمام النووي رحمة الله تعالى في كتاب الأذكار: (اعلم أنه كما يستحب الذكر يستحب الجلوس في حلق أهله، وقد تظاهرت الأدلة على ذلك (...) وروينا في صحيح مسلم عن معاوية رضي الله عنهما أنه قال:

خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على حلقة من أصحابه فقال: ما أجلسكم؟ قالوا: جلسنا نذكر الله تعالى ونحمده على ما هدانا للإسلام ومن به علينا، قال: الله ما أجلسكم إلا ذاك؟ قالوا: والله، ما أجلسنا إلا ذاك، قال: أما إني لم استحلفكم تهمة لكم: ولكنه أتاني جبريل فأخبرني أن الله تعالى يباهي بكم الملائكة!

هذا، ويحسن عند القراءة للقرآن وللأذكار أن تمد صوتك بالحروف مدا؛ حتى تستعين بذلك على ما ذكرنا من مصاحبة الفكر للذكر. وهو الثابت في سنة القراءة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أخبر الصحابي الجليل أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمد صوته بالقرآن مداً. قال السندي في حاشيته على النسائي: (قوله: "يمد صوته مداً" أي يطيل الحروف الصالحة للإطالة؛ يستعين بها على التدبر والتفكر، وتذكير من يتذكر).

وذلك طيف عابر من لطائف الذكر. وأما مشاهدة المقاصد والمعاني يا صاحبي؛ فتلك غاية لا يمكن أبداً شرحها بعبارات، وإنما يتلقاها المتعلم بإشارات! إشارات تنبئ عن دخول القلب في مشاهدة الكلمات، وعن تجربة وجدانية للذاكر ومدى تذوقه لمواجيدها. إنما الذي نرجوه أن هكذا، ببدايات مثل هذه يمكن إن شاء الله أن تكون ذاكراً، فاتق الله يعلمك الله؛ ويزدك من فضله؛ عسى أن تكون من الربانين، والمفردين السابقين.

تبصرة:

لك أن تختار من القرآن والسنة الصحيحة آيات وأذكار نبوية، تكون لك ورداً يومياً، تسلك من خلاله إلى الله تعالى، وتتعهد به قلبك حتى يدوم على نداوة الإيمان، ويستعين بها على الترقي بمدارج التعرف إلى الله ذي الجلال ؛ فيزداد إشراقاً بنور الرحمن! وقد جمعت لك ـ أيها المحب ـ مختارات من ذلك، مما صح الإرشاد إليه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم واشتغل به الصحابة رضوان الله عليهم ، فكانت لهم به أحوال وأسرار. وهو مضمون الفصل الخامس من هذه الرسالة. فاعتمده إن شئت، فإنما هو آيات وسنن صحيحة. لكن احذر أن يفوتك ذكر الله بــ(منهج التلقي) ـ كما شرحناه قبل ـ فتفوتك أنوار الحكمة من كل آية قرآنية وعبارة نبوية؛ وإذن لا يكون للذكر على قلبك أثر! وإنما الذكر تذكر. فتدبر ثم أبصر!

السابق التالى

مقالات مرتبطة بـ تبصرة في مجلس الذكر

  • تبصرة : في مسلك الذكر القرآن

    الدكتور / فريد الأنصاري

    القرآن العظيم رأس الذكر، ومفتاح الذكر، وتاج الذكر. بل القرآن هو الذكر ! قال سبحانه {وإن يكاد الذين كفروا

    14/03/2018 2783
  • تواطؤ اللسان والقلب على ذكر الله

    محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

      من الذاكرين من يبتدئ بذكر اللسان وان كان على غفلة, ثم لا يزال فيه حتى يحضر قلبه فيتواطأ على الذكر. ومنهم من

    04/06/2013 5574
  • فضّل الذكر فيها لسهولته

    الشيخ عبد العزيز الطريفي

    من رحمة الله أنه لمّا جعل عشر ذي الحجة أفضل الأيام فضّل " الذكر " فيها لسهولته ، حتى ينال الأجر كلّ راغب و لا

    12/08/2018 1710