تبصرة: فما التدبر إذن؟
تَدَبَّرَ الشيء – في اللغة - يَتَدبَّرُه: تتبع دبره، أي نظر إلى أواخره وعواقبه ومآلاته، كيف هو إذا صار إليها؟ وكيف يكون؟ جاء في لسان العرب: (ودَبَّرَ الأَمْرَ وتَدَبَّره: نظر في عاقبته، واستَدْبَرَه : رأَى في عاقبته ما لم ير في صدره؛ وعَرَفَ الأَمْرَ تَدَبُّراً؛ أي بأَخَرَةٍ (..) والتَّدْبِيرُ في الأَمر: أن تنظر ألى ما يَؤُول إليه عاقبته، والتَّدَبُّر: التفكر فيه).
فتدبر القرآن وآيات القرآن: هو النظر إلى مآلاتها وعواقبها في النفس وفي المجتمع، وذلك بأن تقرأ الآية من كتاب الله، فتنظر - إن كانت متعلقة بالنفس – إلى موقعها من نفسك، وآثارها على قلبك وعملك، تنظر ما مرتبتك منها؟ وما موقعك من تطبيقها أو مخالفتها؟ وما آثار ذلك كله على نفسك، وما تعانيه من قلق واضطراب في الحياة الخاصة والعامة؟ تحاول بذلك كله أن تقرأ سيرتك في ضوئها، باعتبارها مقياساَ لوزن نفسك وتقويمها، وتعالج أدواءك بدوائها، وتستشفي بوصفاتها.
وأما إن كانت تتعلق بالمجتمع؛ فتنظر في سنن الله فيه كيف وقعت؟ وكيف تراها اليوم تقع؟ وكيف ترى سيرورة المجتمع وصيرورته في ضوئها؟ عند المخالفة وعند الموافقة.. ثم تتنظر ما علاقة ذلك كله بالكون والحياة والمصير؟
وهنا تلج إلى باب آخر من أبواب القرآن رديف للتدبر، بل هو منه، ذلك هو: التفكر، إن التفكر غالباً ما يرد مذكوراً في القرآن في سياق النظر في خلق الله، والتأمل في بديع صنعه، ك
ما في قوله تعالى: { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلْ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ}.
[آل عمران: 190-194]
، فكل هذه الأدعية العابدة، الحارة، الخاشعة، الباكية؛ إنما هي نابعة عن الإحساس الحاصل للعبد بعيد التفكر في خلق الله، فاقرأ الآيات وتدبر.. تجد أن المؤمن لما يسيح في جنبات الكون الفسيح، يشعر بعظمة الله الواحد القهار، وتأخذه الرهبة من جلال ملكه وعظمة سلطانه؛ فيسرع هارباً إلى مساكن رحمته، وجمال غفرانه.
وبما أن القرآن كتاب يحيل المتدبر له على امتدادات الكون ويرجع به إلى كشف كثير من أسرار الوجود، وغرائب الخلق؛ فإن (التدبر) الذي هو المنهج الرباني لقراءة القرآن؛ يحيل الإنسان على (التفكر) الذي هو المنهج الرباني لقراءة الكون فيكون كل متدبر للقرآن متفكراً في الكون، فتقرأ – بفراءة القرآن – كل آيات الله المنظورة والمقروءة سواء. وبذلك كله يتم لك شيء آخر، هو: الإبصار.
إن التدبر والتفكر كليهما، يعتبران بمثابة الضوء أو الشعاع المسلط على الأشياء، تماماً كما تسلط الشمس أشعتها المشرقة – في اليوم الصحو – على الموجودات فتبصرها الأعين الناظرة، فكذلك التدبر يكشف حقائق الآيات القرآنية، هذه وتلك؛ أبصرها المتدبرون والمتفكرون، وكانت لهم فيها مشاهدات، لا تكون لغيرهم،
ولذلك قال عز وجل: {قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ}.
[الأنعام: 104]،
وقال سبحانه: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ}
[الحشر:2].
هكذا وجب أن تقرأ القرآن آية آية؛ اقرأ وتدبر ثم ابصر! عسى أن ترى ما لم تر، وتدرك من حقائقه ما لم تدرك من قبل، فتكون له متدبراً.. فتدبر!