النداء الواحد و الخمسون : تحريم دخول المشركين المسجد الحرام
النداء الواحد و الخمسون : تحريم دخول المشركين المسجد الحرام
قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَاء إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (28) سورة التوبة
أَمَرَ اللهُ تَعَالَى عِبَادَهُ المُؤْمِنِينَ بِمَنْعِ المُشْرِكِينَ مِنْ دُخُولِ المَسْجِدِ الحَرَامِ ، وَالطوَافِ بِالكَعْبَةِ ، بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ الآيَةِ ، ( وَقَدْ نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي العَامِ التَّاسِعِ لِلْهِجْرَةِ ) لأَنَّهُمْ قَذِرُونَ ، قَلِيلُو النَّظَافَةِ ( نَجَسٌ ) ، لِذَلِكَ أَمَرَ رَسُولَ اللهِ أَنْ لاَ يَحُجَّ بَعْدَ هَذا العَامِ مُشْرِكٌ ، وَلاَ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ عُرْيَانُ .
يَقُولُ اللهُ تَعَالَى لِلْمُؤْمِنِينَ : إِذَا خِفْتُمْ بَوَارَ تِجَارَتِكُمْ ، وَقِلَّةَ أَرْزَاقِكُمْ ، بِسَبَبِ انْقِطَاعِ مَجِيءِ المُشْرِكِينَ إِلَى مَكَّةَ ، فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ عَنْ ذَلِكَ ، وَسَيُعَوِّضُ عَلَيْكُمْ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ بِفَضْلِهِ وَكَرَمِهِ إِنْ شَاءَ ، وَاللهُ عَلِيمٌ بِمَا فِيهِ الخَيْرَ وَالمَصْلَحَةَ ، حَكِيمٌ فِيمَا يَشْرَعُهُ وَيُقَرِّرُهُ .
إنما المشركون نجس . يجسم التعبير نجاسة أرواحهم فيجعلها ماهيتهم وكيانهم . فهم بكليتهم وبحقيقتهم نجس , يستقذره الحس , ويتطهر منه المتطهرون ! وهو النجس المعنوي لا الحسي في الحقيقة , فأجسامهم ليست نجسة بذاتها . إنما هي طريقة التعبير القرآنية بالتجسيم .
(نجس . فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا) . .
وتلك غاية في تحريم وجودهم بالمسجد الحرام , حتى لينصب النهي على مجرد القرب منه , ويعلل بأنهم نجس وهو الطهور !
ولكن الموسم الاقتصادي الذي ينتظره أهل مكة ; والتجارة التي يعيش عليها معظم الظاهرين في الجزيرة ; ورحلة الشتاء والصيف التي تكاد تقوم عليها الحياة . . . أنها كلها ستتعرض للضياع بمنع المشركين من الحج ; وبإعلان الجهاد العام على المشركين كافة . . .
نعم ! ولكنها العقيدة . والله يريد أن تخلص القلوب كلها للعقيدة !
وبعد ذلك , فالله هو المتكفل بأمر الرزق من وراء الأسباب المعهودة المألوفة: (وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء) . .
وحين يشاء الله يستبدل أسبابا بأسباب ; وحين يشاء يغلق بابا ويفتح الأبواب . .
(إن الله عليم حكيم) . .
يدبر الأمر كله عن علم وعن حكمة , وعن تقدير وحساب . .
لقد كان المنهج القرآني يعمل , في المجتمع المسلم الذي نشأ من الفتح ; والذي لم تكن مستوياته الإيمانية قد تناسقت بعد . .
وكما أننا نلمح من خلال السياق في هذا المقطع ما كان يعتور هذا المجتمع من ثغرات . فكذلك نلمح عمل المنهج القرآني في سد هذه الثغرات . ونلمح الجهد الطويل المبذول لتربية هذه الأمة بهذا المنهج القرآني الفريد .
إن القمة التي كان المنهج القرآني ينقل خطى هذه الأمة لتبلغ إليها , هي قمة التجرد لله , والخلوص لدينه . وقمة المفاصلة على أساس العقيدة مع كل أواصر القربى وكل لذائذ الحياة . وكان هذا يتم من خلال ما يبثه المنهج القرآني من وعي لحقيقة الفوارق والفواصل بين منهج الله الذي يجعل الناس كلهم عبيدا لله وحده , ومنهج الجاهلية الذي يجعل الناس أربابا بعضهم لبعض . . وهما منهجان لا يلتقيان . . ولا يتعايشان . .
وبدون هذا الفقه الضروري لطبيعة هذا الدين وحقيقته , وطبيعة الجاهلية وحقيقتها ; لا يملك إنسان أن يقوم الأحكام الإسلامية , التي تقرر قواعد المعاملات والعلاقات بين المعسكر المسلم وسائر المعسكرات .