الزهد


فريق عمل الموقع

 

المثال الثانى: الزهد. قال أَبو العباس [رحمه الله]: "هو للعوام أيضاً، لأَنه حبس النفس عن الملذوذات، وإمساكها عن فضول الشهوات، ومخالفة دواعى الهوى، وترك ما لا يغنى من الأشياء وهذا نقص فى طريق الخاصة، لأَنه تعظيم للدنيا واحتباس عن انتقادها، وتعذيب للظاهر بتركها مع تعلق الباطن بها والمبالاة بالدنيا عين الرجوع إلى ذاتك، وتضييع الوقت فى منازعة نفسك [وشهود] جنسك وبقائك معك، ألا ترى إلى من أَعطاه الله الدنيا بحذافيرها، كيف قال: {هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [سورة ص: 39]، وذلك حيث عافى باطنه من شهودها، وظاهره من التعلق بها.

 

 

فالزهد صرف الرغبة إِليه وتعلق الهمة به والاشتغال به عن كل شيء يشغل عنه، ليتولى هو حسم هذه الأَسباب عنك. كما قيل: إِن بعض المريدين سأَل بعض المشايخ فقال: أَيها الشيخ، بأَى شيء تدفع إبليس إذا قصدك بالوسوسة؟ فقال الشيخ: إِنى لا أَعرف إِبليس فأَحتاج إلى دفعه، نحن قوم صرفنا هممنا إلى الله فكفانا ما دونه. وكما قال:

 

تسترت عن دهرى بظل جناحه     فعينى ترى دهرى وليس يراني

 

فلو تسأَل الأَيام ما اسمى ما درت    وأَين مكانى ما عرفن مكاني

 

فيقال: الكلام على هذا من وجوه:

إحداها: أَن جعل الزهد للعوام لما ذكره إِنما يتم إِذا كان الزهد ملزوماً لمنازعة النفس ومجاذبتها لدواعى الشهوة والهوى، وحينئذ فيكون قلبه مشغولاً بتلك الدواعى والجواذب ونفسه تطالبه بها وزهده يأْمره باجتنابها. ولا ريب أن فوق هذا مقاماً أعلى منه، وهو طمأْنينة نفسه وسكونها إِلى محبوبها وانجذاب دواعيها إِلى محابه ومرضاته، وهذا للخواص من المؤمنين.

ولكن هذه المنازعة غير  لازمة للزهد، وإِن كان لا بد منها فى حكم الطبيعة لتحقق الابتلاءِ والامتحان، وليتحقق ترك العبد حظه وهواه لربه إيثاراً له على هواه ونفسه.

 

 

الثانى: أَنه لو كانت هذه المنازعة وحبس النفس عن الملذوذات من لوازم الزهد لم يكن فيها نقص ولا علة، فإِنها من لوازم الطبيعة وأَحكام الجبلّة، وهى كالجوع والعطش والأَلم والتعب، فحبس النفس عن إجابة دواعيها إيثاراً لله ومرضاته عليها لا يكون نقصاً ولا مستلزماً لنقص.

وقد اختلف أرباب السلوك [وأهل الطريق] هنا فى هذه المسألة، وهى أَيهما أفضل: من له داعية وشهوة وهو يحبسهما لله ولا يطيعهما حباً له وحياءً [منه] وخوفاً، أو من لا داعية له تنازعه بل نفسه خالية من تلك الدواعى والشهوة، وقد اطمأنت إلى ربها واشتغلت به عن غيره، وامتلأت بحبه وإِرادته، فليس فيها موضع لإرادة غيره ولا حبه؟ فرجحت طائفة الأول وقالت: هذا يدل على قوة تعلقه وشدة محبته، فهو يعاصى دواعى الطبع والشهوة ويقهرها بسلطان محبته وإِرادته وخوفه من الله، وهذا يدل على تمكنه من نفسه وتمكن حاله مع الله وغلبة داعى الحق عنده على داعى الطبع والنفس.

 

 

قالوا: وأيضاً فله مزيد فى حاله وإيمانه بهذا الإيثار والترك مع حضور داعى الفعل عنده، ومزيد مجاهدة عدوه الباطن ونفسه وهواه، كما يكون له مزيد مجاهدة عدوه الظاهر.

 

 

قالوا: والذوق والوجد يشهد لمزيده من الحب والأُنس والسرور والفرح بربه عند إيثاره على دواعى الهوى والنفس، والمطمئن الذى ليس فيه هذا الداعى ليس له مزيد من هذه الجهة، وإِن كان مزيده من جهة أُخرى فهى مشتركة بينهما، ويختص هذا بمزيده من الإيثار والمجاهدة.

 

 

قالوا: وأيضاً فهذا مبتلى بهذه الدواعى والإِرادات، [وذاك] معافى منها.

وقد جرت سُنَّة الله فى المؤمنين من عباده أَن يبتليهم على حسب إِيمانهم، فمن ازداد إِيمانه زيد فى بلائه كما ثبت عن النبى صلى الله عليه وسلم أَنه قال: "يبتلى المرءُ على حسب دينه، فإِن كان فى دينه صلابة شدد عليه البلاءُ، وإِن كان فى دينه رقة خفف عنه البلاءُ".

 

والمراد بالدين هنا: الإيمان الذى يثبت عند نوازل البلاءِ، فإن المؤمن يبتلى على قدر ما يحمله إيمانه من وارد البلاء. قالوا: فالبلاءُ بمخالفة دواعى النفس والطبع من أَشد البلاء، فإنه لا يصبر عليه الصدِّيقون.

 

 

وأما البلاء الذى يجرى على العبد بغير اختياره كالمرض والجوع والعطش ونحوها، فالصبر عليه لا يتوقف على الإيمان، بل يصبر عليه البر والفاجر لا سيما إِذا علم أَنه لا معول له إِلا الصبر، فإِنه إِن لم يصبر اختياراً صبر اضطراراً.

 

 

ولهذا كان بين ابتلاءِ يوسف الصديق [صلى الله عليه وسلم] بما فعل به إِخوته من الأَذى والإِلقاءِ فى الجب وبيعه بيع العبيد والتفريق بينه وبين أبيه، وابتلائه بمراودة المرأة [له] وهو شاب عزب غريب بمنزلة العبد لها وهى الداعية [له] إلى ذلك، فرق عظيم لا يعرفه إلا من عرف مراتب البلاءِ، فإِن الشباب داع إلى الشهوة والشاب قد يستحى من أَهله ومعارفه من قضاءِ وطره، فإِذا صار فى دار الغربة زال ذلك الاستحياءُ والاحتشام، وإِذا كان عزباً كان أشد لشهوته، وإِذا كانت المرأة هى الطالبة كان أشد وإذا كانت جميلة كان أعظم، فإن كانت ذات منصب كان أقوى فى الشهوة، فإن كان ذلك فى دارها وتحت حكمها بحيث لا يخاف الفضيحة ولا الشهرة كان أبلغ، فإِن استوثقت بتغليق الأَبواب والاحتفاظ من الداخل كان أقوى أيضاً للطلب، فإِن كان الرجل مملوكها وهى كالحاكمة عليه الآمرة الناهية [له] كان أَبلغ فى الداعى، فإِذا كانت المرأة شديدة العشق والمحبة للرجل قد امتلأَ قلبها من حبه، [فهذا] الابتلاء الذى صبر معه مثل الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم صلوات الله عليهم أجمعين.

 

 

ولا ريب أن هذا الابتلاء أعظم من الابتلاء الأَول، بل هو من جنس ابتلاء الخليل بذبح ولده، إِذ كلاهما ابتلاءُ بمخالفة الطبع ودواعى النفس والشهوة ومفارقة حكم [الطبع]، وهذا بخلاف البلوى التى أصابت ذا النون. والتى أصابت أيوب [صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين].

 

 

قالوا: وأيضاً فإن هذه هى النكتة التى من أجلها كان صالح البشر أفضل من الملائكة لأن الملائكة عبادتهم بريئة عن شوائب [و] دواعى [النفوس] والشهوات البشرية، فهى صادرة عن غير معارضة ولا مانع ولا عائق، [و] هى كالنفس للحى، وأَما عبادات البشر فمع منازعات النفوس وقمع الشهوات ومخالفة دواعى الطبع، فكانت أكمل، ولهذا كان أكثر الناس على تفضيلهم على الملائكة لهذا المعنى ولغيره، فمن لم يخلق له تلك الدواعى والشهوات فهو بمنزلة الملائكة، ومن خلقت له وأَعانه الله على دفعها وقهرها وعصيانها كان أَكمل وأفضل.

 

السابق التالى

مقالات مرتبطة بـ الزهد

  • الزهد

    الشيخ صالح أحمد الشامي

    الزهد قال الربيع: قال الشافعي رحمه الله: عليك بالزهد، فإن الزهد على الزاهد أحسن من الحلي على المرأة الناهد

    14/01/2021 998
  • الزهد على أربعة أقسام

    فريق عمل الموقع

        الثانى: أن يكون زهده مشوباً إما بنوع عجز أو ملالة وسآمة وتأَذية بها وبأَهلها، وتعب قلبه

    24/12/2012 4856
  • الزهد فى نفسك

    محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

      النوع الثانى: الزهد فى نفسك، وهو أصعب الأقسام وأشقها، وأَكثر الزاهدين إنما وصلوا إليه ولم يلجوه، فإن الزاهد

    13/02/2013 2232
معرفة الله | علم وعَملIt's a beautiful day