البلاغ الثالث في اكتشاف الحياة الآخرة
هل تعرف: ما الحياة؟ هذا المعنى اللطيف الغريب العجيب، الذي يوصف به كل كائن حي في هذا الوجود، ما دامت نسمتها الغريبة تسرس بجسده، حتى إذا فارقته تلك النسمة؛ فارق الحياة، أو بالأحرى فارقته الحياة؛ فصار ميتاً ولم يعد معدوداً من أحياء هذا الكون. مهم جدّاً أن تستحضر أن (الحياة) بكل ألوانها وتجلياتها ومصدرها واحد: هو (الحي) سبحانه، فليس عبثاً أن يعلمنا الله بأن من أسمائه الحسنى هذين الاسمين العظيمين: (الحي) و (المحيي)، فهو الحي بذاته سبحانه المحيي لغيره، ولا حياة لأحد سواه إلا بأمره. فسبحانه وتعالى من رب عظيم، وله الحمد في الأولى والآخرة. وقد وصف الله جلا جلاله (الحياة) في القرآن الكريم بصفتين متقابلتين: الأولى: هي (الدنيا)، والثانية: هي (الآخرة)؛
وذلك نحو قوله تعالى: {أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنْ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ}
[التوبة: 38]،
وقوله سبحانه: {وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ مَتَاعٌ}
[الرعد:26] .
فالحياة إذن طبقتان: الأولى: تنتمي إلى عالم الشهادة، وهي حياتنا هذه التي نحيا بها، والثانية: تنتمي إلى عالم الغيب، وهي الحياة الآخرة. وقد علمت أن الإيمان بالآخرة في الإسلام – من حيث هي (حياة) – ركن من أركان الإيمان الستة، التي وجب على كل مسلم أن يعلمها، ويؤمن بها. ولنبدأ الآن رحلة التدبر لهذا المعنى في الرسالة القرآنية.
ذلك أنه ما قُرِن بالإيمان بالله شيء – في الكتاب والسنة - مثل الإيمان باليوم الآخر، فهو أصل من أصول الرسالة القرآنية، ومقصد من مقاصد البلاغ الإلهي، وما كان ذلك ليكون لولا أن فيه حكمة ما، وهو ما نحاول اكتشاف بعض أسراره في هذه الإشارات بحول الله. وأما الآيات فلنذكر منها أمثلة، تدل على ما سواها، فذلك في القرآن أكثر من أن يحصى لفظاً ومعنى، ونحوه قول الله تعالى في حق المؤمنين الصالحين من سائر الملل:
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ}
[البقرة: 62].
وقوله عز وجل في حق المتقين {وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ}
[البقرة:8]،
وقال في حق أهل الكتاب الذين عرفوا الحق فأسلموا:
{ لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ}
[آل عمران: 113- 114].
وقال في سياق التشريع
{ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ}
[البقرة: 232]،
وقال سبحانه في حق العابدين من عمار المساجد:
{إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنْ الْمُهْتَدِينَ}
[التوبة: 18]،
وقال سبحانه في التنبيه على التأسي بسيد المرسلين صلى الله عليه وسلم:
{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً}.
[الأحزاب 21]،
ومعلوم أن مثل هذا في القرآن كثير.
وأما السُّنة فقد تواتر فيها هذا المعنى بهذه الضميمة: (الإيمان بالله واليوم الآخر)، تواتراً معنويّاً كليّاً،
فمن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "فمن أحب منكم أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة؛ فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر"،
وقوله: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحسن إلى جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليسكت".
وقوله أيضاً: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يلبس حريراً ولا ذهباً"
ونحوه في السنة الصحيحة كثير جدَاً.
والغاية عندنا إنما هي بيان طبيعة هذه العقيدة في الإسلام، واكتشاف بعض أسرارها، إذ رغم أن المسلمين اليوم يؤمنون باليوم الآخر، إلا أن آثار ذلك في حياتهم قليل جدّاً؛ بسبب عدم الإحساس بحقيقته في وجدانهم، وضعف السير إليه، خلال آياته؛ لاكتشاف مشاهد الإيمانية، من خلال مشاهده القرآنية، فهو إذن عدم الإبصار، وهذا عمل إيماني وجب على كل مسلم أن يسعى لاكتسابه؛ حتى يجد ما وجد الصحابة من هذه الحقيقة القرآنية العظمى، ويلتقط واحداً من أعظم مضامين رسالة الله رب العالمين إلى الناس أجمعين.
إن الله جل جلاله يخبرك بخبر
،{فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى}
[طه: 13]!
وافقه عن الله ما يقول، فإن الأمر يهم وجودك، ومصيرك أنت بالذات! اقرأ، وأنصت،
وتدبر قوله تعالى: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنْ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتْ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}
[يونس:24 - 25]
. ها هنا (الحياة) حقيقتان: حقيقة الحياة الدنيا، وحقيقة الحياة الأخرى.
فأما الحياة الدنيا فأهم خصائصها الجوهرية أنها فانية، فهي محكوم عليها بــ (الفناء)، وقد ضرب الله لها في الآية السالفة مثلاً: وهو دورة الحياة والموت في الطبيعة، إذ ينزل ماء الحياة في فصل الخريف وفصل الشتاء، غيثاً يبعث النبات من أعشاب وزروع، فتبتهج الأرض بالربيع الزاهر، وتحتفل بموسم الجمال، أشجاراً وأطياراً وأنهاراً، وزخرفة تعلو الروابي والبساتين والسهول؛ فتكون أشبه ما تكون بالحسناء، المتزينة بشتى التلاوين وفنون التقيين؛ حتى تكون في أسحر أحوال الأغواء والإغراء! ذلك أن الزخرفة الصارخة تلقي على قلب الإنسان شباكاً سحرية، فتستوعب كل وجدانه وتفكيره، فلا يرى شيئاً بعد ذلك إلا من خلالها! حتى إذا جاء المصيف، وأنضجت الزروع حبوبها؛ كان الحصاد مآلها، فلا ترى لها في الأرض أثراً إلا هشيماً من حصيد! تماماً كما تتناثر أوراق الأشجار عند الخريف، لقى ذابلاً، تذروه الرياح بكل البطاح! فتعوي ريح الفناء بالوديان والقيعان، لتكنس كل أثر للحياة، وكأن الأشجار المتحطمة الأغصان، ما أورقت قط ولا أزهرت، وكأن الأطيار الراحلة في الأفق البعيد ما عششت هاهنا ولا غردت!
{كَأَن لَم تَغنَ بِالأَمسِ}!
تبصرة:
ولنا في هذا المثال الرباني الحق عبرتان كلتاهما ترجع إلى حقيقة كونية عظمى، الأولى: تتعلق بمفهوم المكان، أي طبيعة بناء الكون، والثانية: تتعلق بمفهوم الزمان؛ أي طبيعة حركة العمر.
فأما الحقيقة الأولى: أي مفهوم المكان؛ فهو راجع إلى أن هذا البناء الكوني الممتد ما بين السماء والأرض؛ ليست له طبيعة خالدة؛ لأنه تكوينه الابتدائي كان كذلك؛ أي أنه بنى على هذا الوزان، وهو أن يحيا إلى حين، لا إلى الأبد، فكل المكان من حيث هو مكان قائم على مبدأ الفناء، فحركة أجرامه ومدارات فضاءاته، كلها سائرة إلى نهايتها، ومن هنا كانت حياة هذا الكون الحالي إنما هي (الحياة الدنيا)، فهي حياة، نعم، لكنها إلى حين، إنها (دنيا): أي قريبة الأجل، لا خالدة، ولا حتى ممتدة امتداداً طوليّاً حقيقيّاً، بالنسبة إلى امتداد (الحياة الأخرى).
وكم أخطأ الناس في هذا الزمان في فهم معنى (الدنيا)، إذ ظنوا أنها دالة على الجمال، والغني والرفاه؛ حتى جعلوا من أسماء بناتهم (دنيا)، وما هذا التعبير بدال على المدح، بل له دلالة قدحية ناقصة فالدنيا – بهذا السياق خاصة – من الدنو والدناءة، وهي معنى نازل لا علو له؛ ولذلك قيل لسيء الأخلاق: دنيء؛ أي له أخلاق منحطة قريبة من الأرض، فالدنيا: حياة قريبة من الفناء، لا لذة حقيقية فيها ولا متعة، ما دام كل شيء فيها إلى فناء. فهي دنيا.
ومن هنا سمت العرب أبناءها – قبل الإسلام وبعده – (خالداً) و(خالدة)، إذ رغبوا قبله في الخلود الدنيوي، وهو محال؛ لأن الضدين لا يجتمعان، ثم رغبوا بعده في الخلود الأخروي السعيد، وهو ممكن بإذن الله.
إن بناء الكون الدنيوي له ساعة ينهار فيها، ثم يفني بإرادة الله، فلا يبقى شيء إلا الله الواحد الأحد، وهذه الساعة هي (الساعة) بتعبير القرآن، ذلك الحدث الكوني العظيم،
سألتك بالله أن تتدبر قوله عز وجل {يَسْأَلُونَكَ عَنْ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}
[الأعراف: 187]،
وذلك هو السؤال الأزلي: الساعة؟ فلم يزل الإنسان مذ كان يتوجس وقوعها ويتحسس وقتها وحقيقتها، لكن الله جل جلاله أنبأه أنها سر من أسرار قضائه الكوني:
{قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ}
[الأعراف: 187]
، وقد ورد في التفاسير أن العرب واليهود كانوا كثيري السؤال لمحمد صلى الله عليه وسلم عن الساعة، كانوا يسألونه ظانين أنه حفي عنها، أي كثير السؤال- مثلهم – لربه عنها، إذ لا يتصور في المرء إلا السؤال عن الغوامض الكونية. ولذلك قال قبل:
{ثَقُلَتْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ}
[الأعراف: 187]
، إنها حدث كوني عظيم، يمتد من السماء إلى الأرض. ليحدث ذلك التحول الرهيب في طبيعة الكون، تدميراً ثم تكويناً وإفناءً ثم خلقاً؛ لاستقبال الحياة الأخرى، وإن أمرها في ميزان الله قريب.
ومثله قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ}
[الحج: 1- 2].
والساعة: هي القيامة، والواقعة، والقارعة، والصاخة... إلخ من الأسماء، التي عبر فيها الرب العظيم عن لحظة نهاية الكون الدنيوي، فالكون الدنيوي إذن تكوين ابتدائي، والكون الأخروي تكوين استئنافي،
قال جل جلاله: {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ}
[الأنبياء: 104]،
وقال سبحانه: {أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.
[العنكبوت: 19- 20]،
ولذلك قال تعالى:{ثَقُلَتْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ}
[الأعراف: 187]،
كما أوردناه قبل.
إن الساعة إذن؛ هدم وبناء: هدم لكون الدنيا، وبناء لكون الآخرة، إنها تحول كوني عجيب من طبيعة إلى أخرى، يحدث في لحظة واحدة، كاللمحة من البصر!
كما في قوله تعالى: {وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}
[النحل: 77]
، وقال: {وَمَا أَمْرُنَا إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ}.
[القمر: 50].
إن الكون الدنيوي خلق فإن، ومعمار إلى زوال، هذه هي الحقيقة الأولى.