العقل أسمى شيء في الإنسان، وهو أعظم منحه من الله للإنسان، كرم به تكريماً لا مثيل له، وبه تميز عن عالم الأنعام والحيوان.
وقد عدّ القرآن الكريم الذي يغفَل عن استعمال حواسه وعقله، ولا يبحث عن الحقيقة أنه أضل من الأنعام والحيوان، لأنه لم يستخدم وسائل المعرفة لما خلقت له، وبقي يلهث وراء شهواته وغرائزه
قال تعالى: ﴿إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ ٢٢﴾
وقال تعالى:﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ١٧٩﴾
ويجعل القرآن الكريم العقل المتبصر المتدبر أساساً للنجاة من النار، والفوز بالجنة،
قال تعالى: ﴿وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ ١٠﴾
وقد اعتبر الإسلام حماية العقل من المصالح الضرورية الخمس التي جاءت الشريعة للمحافظة عليها، وهي حماية كاملة تنتظم حمايته من الشبهات، والأفكار المدمرة، والقيم المنحطة التي تؤدي به إلى الهلاك، وتحميه من المسكرات والمخدرات، فحرّم الإسلام كل ما من شأنه أن يزيل العقل، ويلغي وجوده، وحرّم القليل من الخمر وإن لم يسكر، سداً للذرائع ودفعاً للمفاسد، احتياطاً لما قد يؤول إليه شرب القليل من التمادي إلى شرب الكثير، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ما أسكر كثيره فقليله حرام»
فالإسلام يريد أن يسد منافذ الشيطان، ويقطع دابر الشر عن العقل احتراماً وتقديراً له، واعتباراً لدوره في تحقيق الاستخلاف في عمران الأرض، وإقامة أوامر الله التي وضعها لمصالحهم وسعادتهم، وقد تعددت الآيات القرآنية صراحة وإشارة في مخاطبة العقل للنظر والتأمل والبحث وجعلت التفكير فريضة إسلامية،
قال تعالى: ﴿قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ١٠١﴾
وقال تعالى: ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ١٩١﴾
وقد أكد الدارسون لمسائل إعمال العقل والتفكير في ملكوت السموات والأرض أن « فريضة التفكير في القرآن الكريم تشمل العقل الإنساني بكل ما احتواه من هذه الوظائف بجميع خصائصها ومدلولاتها، فهو يخاطب العقل الوازع، والعقل المدرك، والعقل الحكيم، والعقل الرشيد، ولا يذكر العقل عرضاً مقتضباً، بل يذكره مقصوداً مفصلاً على نحو لا نظير له في كتاب من كتب الأديان» ولأهمية العقل في الوصول إلى العلم، يتساءل المرء عن الطريق إلى تحصيل العلم بالأشياء والوصول إلى عقائد يقينية.
لنقف عند المعنى اللغوي لكلمة «العقل»، ففي أصل اشتقاق هذه الكلمة عند بعضهم، أنها تعني: (المنع والحبس). وعلماء الأمة مجمعون على أن تعلم العلم الشرعي والنظر والتأمل في ملكوت الله مع تصفية النفس والتجرد المحض من العلائق الجسدية، وترك الشهوات يؤدي بالإنسان إلى الوصول إلى الحقيقة من الطريق المستقيم، وفق منهج القرآن والسنة. فعلوم الشريعة مع تدبر العقل في النعم الجلية، والمنح السخية من رب البرية، وترك هوى النفس كلها في مجموعها تؤدي إلى البصيرة، وتؤدي به إلى أن يكتشف ما أودعه الله في هذا الكون الرحب الفسيح من العبر والآيات والنعم، ولكي يعلم بعد كل ذلك أن هذه النعم هبة من الله، ومنحة منه، فصار نور العلم الرباني إذا وصل إلى العقل السليم أثمر يقيناً صادقاً، وإعمال العقل في هذا الشأن ضرورة واجبة في دين الإسلام، بينما اعتبر رجال الكنيسة أن مصدر المعرفة الوحيد هو:(الوحي أو الكنيسة) ونُبذ العقل. يقول القديس (أنسلم): «أنا لا أعرف لأؤمن بل أؤمن لأعرف. لأنني إذا لم أؤمن فلا يمكنني أن أعرف» وقال الرسول (بولس): (سأبدد حكمة الحكماء، وأنبذ معرفة العارفين). فحاربت الكنيسة العلماء حرباً شعواء وصلت إلى حد إحراق (جيوردانو برونوا) عام 1660م، وتم سحب العالم الكبير (جاليلو)، وتم إجباره في المحكمة عن تغيير فكرته عن دوران الأرض، والتي اعتبرتها الكنيسة ثابتة، وحصل الصدام بين الدين والعلم.
يقول عالم الرياضيات والفيزياء (ولسن ديفيس) في كتابه «المكان والزمان في الكون الحديث»: (لقد ابتعد العلم كثيراً عن المفهوم التوراتي لنشأة الكون). ولكن القرآن والسنة قد جاءا بنقض هذه الفرية، فإن العلم والعقل السوي السليم والدين يسير الكل في وحدة متسقة، فليس من اللائق أن يكون العقل الذي أعطانا الله إياه عقلاً معطلاً، بل إنه عقل متدبر في ملكوت الله الرحب، من سماوات وأرضين تجعل العاقل يدرك من خلال تأمله وتفكيره أن وراء هذا الإحكام في الخلق: حكيم، ووراء هذه الدقة في التقدير: إتقان صانع قدير، فإذا سرح عقله متأملاً في النتائج التي يراها قد تجلت فيها مظاهر الحكمة، وحسن الصنعة، وعظيم التدبير: علم علم اليقين أن وراء هذه الحكمة: قاصد حكيم، وأن وراء هذه النعم: جواد كريم، وأن مدبر ملكوت السموات والأرض: حي قيوم، جليل عظيم، ولذلك أمرنا ربنا عز وجل أن نتأمل في الملكوت الرحب،
قال تعالى: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الأَلْبَابِ 190الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ١٩١﴾
وقد يسأل الإنسان الذي تاهت به السبل عن المنهج الحق في استعمال العقل للدلالة على الخالق فنقول له: إن المنهج السوي، والمنهل الروي، والطريق الأسلم، والأعلم والأحكم: هو منهج القرآن الكريم الذي أجمل الله فيه هذه القضية الكبرى في أوضح برهان عقلي أطلق عليه علماء الإسلام: دليل الاختراع،
فقد قال الله عز وجل: ﴿أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ٣٥﴾
، ثم تحداهم عز وجل فقال:
﴿أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لّا يُوقِنُونَ٣٦﴾
وملخص هذا المنهج القرآني الذي أخبرنا به ربنا عز وجل أوجزه في ثلاث بديهيات يقينية:
البديهية الأولى: أن كل فعل لابد له من فاعل، وهذا من أبده المسلمات العقلية، فالإنسان حادث على سطح الأرض، وُجِدَ بعد أن لم يكن،
قال تعالى: ﴿ هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا١﴾
وقال أيضاً:﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ﴾
فلا يمكن للمرء أن يكابر ويدعي وجود حادث بدون محدث أحدثه، فهذه قضية فطرية بديهية يقينية أجمعت العقول عليها قديماً وحديثاً. إلا إذا صار يفكر كالطفل الصغير، فعندما تسأله من كسر الزجاج؟ فيجيبك ليبعد التهمة عنه، ويقول: لقد انكسر بنفسه. وتضحك ساخراً من بطلان جوابه، لأن من أبده البديهيات أن الفعل لابد له من فاعل.
البديهية الثانية: أن هذا الفعل (خلق الإنسان المعقد في صنعته، البديع في تكوينه، المخلوق في أحسن تقويم) مرآة لقدرة الصانع الحكيم سبحانه ولبعض صفاته، فأنت تقرأ بعقلك وتنظر بعين البصيرة والتدبر كثيراً من صفات الفاعل من خلال فعله، فمثلاً هذا الجنين الذي تكون في رحم أمه من أين له طعامه وشرابه وتنفسه؟ ثم هو في بطن أمه عاش يسبح في ماء المشيمة وراء ظلمات ثلاث
﴿يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِن بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ ﴾
وهي: ظلمة المشيمة، وظلمة الرحم، وظلمة بطن أمه، فلما خرج منها وانقطع عنه رزقه بقطع الحبل السري المتصل بأمه، وجدنا له رزقاً جديداً في نهرين جاريين من حليب ثدي أمه دافئاً في الشتاء، بارداً في الصيف، ولما خرج علينا وجدنا له لساناً يصرخ به معلناً حاجته إلى الغذاء، وعينين يرى بهما، وقدمين مهيأتين للسير عليهما، إلى غير ذلك. كل ذلك
﴿فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ﴾
ألا ترى بعين البصيرة أن الذي أوجده صانع عظيم، رحمن رحيم، لأنك إن فعلت ذلك وتدبرت في هذه الحقيقة فإنك ستقول وبكل ثقة: إن الذي أوجده رب منعم رحيم، لأنك ترى آثار هذه النعمة والرحمة التي حفته من البداية إلى النهاية، إنك تستطيع أن تقول وبكل ثقة واطمئنان: إن الذي أوجده خلاق عليم
﴿أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ١٤﴾
إذ هيأ له من وسائل السمع والبصر والكلام والحركة ما به يستطيع أن يمارس حياته في كل مرحلة من مراحل عمره.
ورأيت أربعة أنهار في وجهه؛ دمع في العين، ولعاب في الفم، وصماخ في الأذن، ومخاط في الأنف، وكل واحدة من هذه النعم في موقعها المناسب، تتجلى معها صفة الحكمة البالغة في حسن الخلق والتدبير.
وهكذا فعندما تستمر في قراءتك لخلق الإنسان: تستخرج صفات الكمال لله في القدرة، والقيومية، والخلق، وعلم الغيب والشهادة، والملك، والهيمنة، وحسن التكوين والحكمة، فنعلم علم اليقين أن من أوجده وخلقه هو الله وحده لا شريك له، وهو المتصف بهذه الصفات العظيمة
﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾
إنك تقول ذلك بلسانك، وتعتقده بقلبك وجنانك، لماذا ؟ لأن ما سوى الله زيف وباطل، ومغالطة للعقل والحق، وانكار لأبده البديهيات اليقينية
﴿فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ ﴾
والقول بالمصادفة وهي مرجع من تنكر لله وجحده، تخذل صاحبها عندما تتكرر مظاهر الحكمة في الخلق، لأن المصادفة لا حكمة فيها ولا انضباط، وقلما تتكرر. فعامل الطباعة عندما يهز حروف المطبعة قد تتشكل معه كلمة، ولكنه لو هزها ملايين المرات هل تعود هذه الكلمة للتشكل ثانية؟ فكيف لو هزها وتشكل منها مؤلف علمي كامل؟ والإنسان والكون لم تستوعبهما المؤلفات بعد، ولله در القائل: إن هذا الكون كتاب مطوي لم يقرأ العلماء فيه إلا كلمات في غلافه. إذ أن هذا الكون البديع في خلقه، العظيم في تكوينه بهذه الدقة المتناهية، والنظام المحكم هو الناطق القوي بتهافت القول بالمصادفة، وسقوط دعواها، أما أولئك الذين إذا سألتهم من أوجد هذا الوجود إنساناً وكوناً وحياةً وأحياء؟ تواروا وراء عبارة (الطبيعة)، وإذا سألتهم أليست الطبيعة فعيلة بمعنى مفعولة؟ أي: أنها مخلوقة، وكل مخلوق يحتاج إلى خالق، إذ قد علمنا بداهة أن لكل فعل فاعلاً، ثم تزيدهم حرجاً وتبطل دعواهم عند المنصفين من أهل الحق والعدل، عندما تقول لهم: أليست هذه (الطبيعة) أي المخلوقة كانت قبل وجودها عدماً، والعدم لا يوجد نفسه؟ ونفسك أيضاًً قبل الوجود كانت عدماً، إذاً فهم بداهة غير قادرين على أن يحدثوا هذا الوجود
﴿أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لّا يُوقِنُونَ٣٦﴾
البديهية الثالثة: أن الفاعل المزعوم (الطبيعة) لا يقدر أيضاً على الفعل ابتداء وانتهاء، ولم يكن مدركاً فاعلاً بذاته، فقد نقل الرهاوي عن الفيلسوف اليوناني أرسطو قوله: (أليس بعجب أن تكون الطبيعة، وهي لا تفهم، منساقة إلى الغرض المقصود إليه، إذ كانت لا تتروى، ولا تفكر في فعل ما تفعله)([2]) فالطبيعة مفعولة أي مخلوقة، وكل مخلوق محتاج لخالقه، وهذا من أبده المسلمات اليقينيات المركوزة في عقول بني الإنسان جميعاً.
فلم يبق أمامك يا أيها الباحث عن الحق، ويا أيها السائل عن الحقيقة ببرهانها، وعظيم حجتها، وجلاء دليلها ـ والبراهين من حولك ناطقة بصفاء لا غبش فيه ـ إلا أن تعلم علم اليقين الذي لا يخالطه شك، ولا تزعزعه ريبة، وأن تعتقد وبكل ثقة أن الخالق المنعم الرازق المدبر لملكوت السموات والأرض هو الله الحي القيوم ولا شيء غير الله. وإذا كان الأمر كذلك فإنه وحده الرب المنعم المحبوب المعبود المطاع:
﴿ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾
-----------------------------------
([1]) أخرجه من حديث جابر أبو داود (3681) والترمذي (1865) وقال: (وفي الباب عن سعد وعائشة وعبد الله بن مسعود وابن عمر وخوات بن جبير. قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب من حديث جابر) وأخرجه النسائي (5607) وابن ماجه (3394) من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدة مرفوعاً. قال الألباني: (حسن صحيح) وأخرجه ابن ماجه (3392) وأحمد (5648) عن عبد الله بن عمر. قال مخرجوه: حديث قوي وهذا إسناد ضعيف. (فيه) أبو معشر... ضعفه غير واحد من الأئمة.
([2]) أدب الطبيب – لإسحاق بن علي الرهاوي 1/45.